يقولون إن الديمقراطية لا تصلح لأن الفقراء في بلداننا يبيعون أصواتهم للأثرياء!.
ونقول : ليس كل الفقراء يبيعون، وإذا باعوا مرة، وأخرى، سيكتشفون من خلال تجربتهم أن من يشتري صوتهم للوصول للسلطة ينهب حقوقهم بأكثر مما يدفع ، فلم يبيعون؟!
ولنفترض جدلاً ان الكل يبيعون، وسيظلون يبيعون، أليس أفضل للفقراء النظام الديمقراطي الذي تشترى فيه أصواتهم ، من النظام العسكري الذي يسعي لأخذ الناس بالقهر والإذلال؟!
• ثم ان الديمقراطية هي التي تتيح للفقراء آليات الدفاع عن حقوقهم في مواجهة السلطات، فهي التي تتيح حرية التعبير، وحرية التنظيم، وحرية التظاهر والاضراب، فاذا جرد الفقراء من هذه الآليات لا يتبقي لهم سوى استجداء الحكام لتلقي الصدقات .
• ويقولون ان الديمقراطية لا تصلح بسبب الجهل والطائفية والقبلية، الظواهر التي تجعل الأتباع يصوتون ككتل غير واعية.
وحقاً، تقوم الديمقراطية، معيارياً، على اختيارات الأفراد الأحرار، لكن تخلف الوعي السائد وتشوهاته ليست مانعاً للديمقراطية وإنما سبب إضافي لتطبيقها فالديمقراطية، بما تتيحه من حرية تعبير تسمح بتنمية الوعي، مما يؤدي إما لتطور الكيانات القديمة أو تجاوزها
أما (استراتيجية إختصار الطريق) بالإنقلاب العسكري فانها تصادر وتقطع الطريق على الجماهير من التعلم من تجربتها وبالتالي اما تجمد أو تحط بالوعي ، ثم انها تستبدل (شيخ) الطائفة أو القبيلة بــ (الكمندة) العسكري، وفيما يستند الشيخ على القبول من الأتباع طوعاً أو نتيجة استلابهم المعرفي والنفسي، فان (الكمندة) كي يبقى على كرسيه فوق (الرعية) لا يسأل القبول وانما يطلب الخضوع بالقهر والاعتقال والتعذيب، بل وبجز الرقاب،
وما من نظام عسكري خصوصاً في بلادنا، برر استبداده بالتخلف والطائفية، إلا وإنتهى بالبلاد محطا بها إلى أسوأ من ما تفعل الطائفية ، وانتهى إلى الولاءات المغلقة وإلى ولاءات العشيرة وخشم البيت .
• ويقولون ان الديمقراطية لا تصلح لأنه في دولها النموذجية تسيطر الطبقة الرأسمالية على وسائل الاعلام فتتلاعب بالمعلومات وتضع الأجندة وتتحكم بالصور والأخيلة، وبالتالي تتحكم بالعقول وتصنع الرأي العام .
والحقيقة ان الديمقراطية ليست مرتبطة جوهرياً بالتفاوت الكبير في توزيع الثروة، ومع ذلك فان المجتمع الديمقراطي المفتوح، وبكفالته لحرية التعبير، خصوصاً في عصر ثورة المعلومات والاتصالات، رغم كل آليات السيطرة والتحكم، يظل يوفر على الدوام المعلومات الكافية وبدائل الرؤى والتصورات، بما في ذلك الرؤى والمعلومات التي تنتقد هيمنة وسائل الاعلام الكبرى التقليدية .
ثم ان الطبقة الراسمالية ليست طبقة مصمتة موحدة، ففيها الفئات الطفيلية والصناعية والزراعية، وفيها الاحتكارات الكبرى ، ومتوسطي وصغار الملاك ، وتتنافس الراسمالية بين فئاتها المختلفة وكذلك بين أفرادها داخل الفئة الواحدة، وبالتالي فان الرأسمالية في النظام الديمقراطي تسخر وسائل الاعلام التي تملكها في منافساتها ضد بعضها البعض ، مما يؤدي كنتيجة نهائية إلى تنوير الرأي العام .
هذا فضلاً عن ان وسائل الاعلام الخاصة في الدول الديمقراطية – حيث التعدد والمنافسة – غير قابلة للاستمرار إذا لم تحافظ على جمهورها بقدر معين من المصداقية والموضوعية وتغطية اهتمامات ومصالح هذا الجمهور .
وأما في الدول الاستبدادية فان الاعلام لا توجهه رغبات أو مصالح المستهلك- الجمهور ، وإنما يتحدد بأوامر المنتج – الرأي الواحد والحاكم الأوحد مع أنصاره من الطبالين، فيكون إعلاماً فاسقاً كذوباً، يتولاه كذبة محترفون (مهنيون)- كما في النازية والفاشية والستالينية -أو يتولاه كما في تجارب الاستبداد في منطقتنا مؤخراً (فاتيات) من الساقطين أخلاقيا، ليس لديهم ما يخسروه، على قول الشاعر : (نجا بك عرضك منجى الذباب)، وعلى هؤلاء تضفي الأجهزة الامنية الحماية القانونية والشخصية، وتمدهم بأسبقيات وجداول (الحرق)، ثم تتركهم لسجيتهم المعطونة في سخائم النفوس، كي يلوثوا المجال العام بكل افتراءات وهراء وإبتذال وتسطيح ،
نفس ما تفعله الأجهزة الأمنية في مراكز الاعتقال من (برمجة) بالمعتقل ، يفعله (فاتيات) الاعلام الشمولي على النطاق الوطني العام .
الديمقراطية من حيث المبدأ ليست مثالية، لكنها أفضل من أي نظام آخر، فلم تبتدع البشرية حتى الآن نظاما أفضل من التصويت الحر لإختيار الحكام، والذين لا يقبلون بهذه الآلية إما مهوسون يعتقدون ان لهم تفويضاً ربانياً بالحكم، أو مرضى بتضخم الذات النرجسي فيصور لهم اعتلالهم النفسي أن لهم حقاً في حكم الآخرين غصبا ودون أخذ رأيهم .
وما من حاكم في كل التاريخ الانساني إلا وسوغ لنفسه بشتى الدعاوي سواء (هي لله) أو لــ( وجه الوطن)، وقد أثبتت التجربة التاريخية – خصوصاً في السودان – ان إدعاءات الحكام عن انفسهم مما لا يركن إليه، بل وان الادعاءات الصحيحة دع عنك الزائفة حين تترافق مع السلطة غير المراقبة تفرش الطريق إلى الفساد والجحيم، ولذا فلا مناص من ضمان حق المحكومين في فحص إدعاءات الحكام ومراقبتهم ، والنظام الديمقراطي هو النظام الوحيد الذي يتيح للمحكومين حق مساءلة ومراقبة وإزاحة الحكام ان لزم الأمر .
وكانت تجارب الديمقراطية في السودان هي الأخرى ليست معيارية، حيث تحمل كثيراً من تشوهات وأمراض التخلف، وكان هناك دوماً خياران في مواجهة ذلك الأول : إنتقاد هذه التشوهات لتقديم معالجات لتطوير التجربة الديمقراطية .
الثاني : (خيار الانقلابيين) وذلك باستخدام هذه التشوهات كذريعة للانقلاب على الديمقراطية، ويجدر بهؤلاء بعد ان أضاعوا ثلثي سنين ما بعد الاستقلال، وخربوا البلاد، وأذلوا وأفقروا أهلها، وقسموها، وعرضوا أقواماً منها للإبادة الجماعية ، وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية، ومزقوا نسيجها الاجتماعي وجرفوا قيمها الاجتماعية، يجدر بهؤلاء ان ينظروا في كيف أن دعاويهم لتبرير الطغيان مختلطة بالدم والقيح .