أمران مهمان ما لم نستصحبهما في سياق قراءاتنا وتحليلنا لأطوار الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع“، لن نكون قادرين على بناء تصور يجعلنا أكثر قرباً من الحقيقة، وهي حقيقة متى ما أدركناها أصبحنا أكثر بصيرة على رؤية الأمور.
الأمر الأول أن هذه الحرب في صميمها حرب عبثية وطبيعة العبث فيها تكمن في طبيعة سياق معرفتنا الأساسية بطرفيها والعلاقة بينهما، فإذا عرفنا مثلاً أن طرفي الحرب هما في الأصل نتاج حصري لتخريب نظام الإسلاميين الهوية الوطنية والمهنية للجيش السوداني خلال 30 عاماً من إدارة الخطايا السياسية لنظام الإخوان المسلمين، سندرك الأمر الثاني، وهو أن عقدة الخلاف التي نجمت بين طرفي الحرب وكانت سبباً فيها، إنما هي ذاتها العقدة التي كشفت عن محاولة النظام القديم – عبر الجيش – إلى استعادة سلطته كاملة، لكن هذه المرة من خلال منازلة الشريك السابق (الدعم السريع) بعد أن افترق موقفاهما من الاتفاق الإطاري الذي أوشك أن يكون حلاً سياسياً مناسباً لتحقيق مبادئ ثورة الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018.
والحال أن الذي نراه اليوم من تطورات وتعثرات سياق الحرب بين الطرفين هو كذلك ما يفسر لنا طبيعتها العبثية، إذ تكشف لنا تماماً من خلال معطيات وافرة، عن أن ثمة طرفاً في هذه الحرب يريد إعادة النظام القديم والالتفاف على ثورة ديسمبر، وهو الطرف الذي تقاتل إلى جانبه كتائب الإسلاميين (مثل كتائب البراء والبنيان المرصوص التي تقاتل إلى جانب الجيش).
ولقد بدا واضحاً، سواء من خلال تعثر مفاوضات منبر جدة في المرحلة الثانية منه مطلع الشهر الحالي بسبب عدم إيفاء الجيش ببعض البنود التي اتفق عليها مع قوات “الدعم السريع” (مثل القبض على السجناء الفارين من كبار رجال النظام السابق) أم في اعتراضات بيان وزارة الخارجية السودانية على البيان الختامي لقمة منظمة “الإيغاد” بأن هناك في أوساط الجيش من يريد لهذه الحرب أن تستمر.
تخبط
وبالعودة للوراء قليلاً سنعرف طبيعة التخبط الذي تعكسه تصرفات قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وهي تصرفات تدل، ربما، على استقطاب ما داخل قيادة الجيش. ففي يوم الـ15 من يونيو (حزيران) الماضي اعترض الجيش على قيادة لجنة “الإيغاد” الرباعية التي كان يترأسها الرئيس الكيني وليم روتو بسبب أن للأخير علاقة طيبة مع قائد الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، وكانت مساعي اللجنة الرباعية طلبت لقاء مباشراً بين كل من البرهان وحميدتي للبحث في وقف الحرب، لكن البرهان حينها رفض لقاء حميدتي.
وفجأة في يوم الـ15 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي طار البرهان إلى نيروبي للقاء الرئيس الكيني وليم روتو بحثاً عن سبيل لإنهاء الحرب، ثم ذهب بعد ذلك إلى أديس أبابا للغرض ذاته، الأمر الذي بدا معه أن البرهان من خلال لقائه مع روتو في كينيا وآبي أحمد في أديس أبابا ربما يسعى إلى مساعدة من وسطاء لهم علاقة مع قائد “الدعم السريع” في سبيل لإنهاء الحرب.
وحين ذهب البرهان إلى جيبوتي قبل أسبوعين وطلب عقد قمة طارئة لبحث سبل وقف الحرب في السودان – ولا سيما بعد تعثر مفاوضات منبر جدة – استجابت “الإيغاد” لطلبه فكانت القمة 41 للمنظمة يوم السبت الماضي، وشهدت حضوراً دبلوماسياً كثيفاً، فإلى جانب رؤساء دول منظمة “الإيغاد” (الهيئة الحكومية للتنمية) حضر القمة كل من المبعوث الأميركي للسودان مايك هامر، والمبعوث الأممي للسودان رمطان العمامرة، ومبعوثة الاتحاد الأوروبي للقرن الأفريقي أنيت فيبر، وأطراف أخرى.
وبحسب البيان الختامي للقمة الطارئة للإيغاد فإنه جاءت فيه بنود كانت في تقديرنا بمثابة اختراق مهم، إذ ذكر البيان أنه اتفق على عقد لقاء مباشر بين البرهان وحميدتي خلال أسبوعين من نهاية القمة، وموافقة البرهان على ذلك من دون شروط كما جاء في نص بيان قمة “الإيغاد”.