فشل مفاوضات جنيف قبل انعقادها.
محدودية رؤى الوسطاء والأطراف (١)
ثلاثون عاما ظل نظام الإنقاذ (المؤتمر الوطني) يراوغ في دول الغرب وتمكن من تغيير العديد من سياساتها ووسائلها ومواقفها تجاهه، وبدأ التغيير بعدة طرق وأدوات ، ففي ظل عهد (البشير/ الترابي) وبالرغم من شعار الإسلام السياسي المرفوع والتشدد الاسلامي الظاهري تجاه الغرب ، كان شعار الحكم الإسلامي مجرد أداة من أدوات الحكم ووسيلة من وسائل تمكين السلطة السياسية للترابي وتلاميذه وتحت غطاء الحكم الإسلامي جرت أمور كثيرة تحت التربيزة، تم اغراء كارلوس المطلوب في جرائم دولية بالحضور إلى السودان والإقامة فيه ولاحقا تم تسليمه إلى فرنسا، وتحت الضغط الغربي تخلى النظام عن الشيخين أسامة بن لادن وعمر عبد الرحمن وأجبرا على مغادرة البلاد بعد أن تمت دعوتهما للإقامة في السودان وذكر بن لادن بعد وصوله لافغانستان بعد فترة بأن الأبالسة في السودان عرضوا تسليمه لاعدائه ولكنه نجا بتدبير من الله من شرورهم ، لقد تجسرت الصلات وتطورت بين النظام والغرب قبل اقتلاعه ووصلت إلى التعاون في ملف مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية إلى دول أوروبا وقبل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة والإطاحة بنظام الانقاذ كان الغرب قد توصل من خلال مراكز بحوثه ودراساته بضعف القوى الحزبية المعارضة وأن الوصول إلى احداث التغيير والتحول الديمقراطي في السودان يتحقق من داخل النظام نفسه وبدأ يروج لهذه المزاعم ، لقد قبل الغرب بسياسة الأمر الواقع في السودان وسعى ليفصل بين نظام حكم البشير والبشير في شخصه وطالب بإجراء الإصلاحات السياسية على النظام وابعاد البشير من السلطة ، وهكذا كان الغرب يرى الطريق إلى نظام الحكم الديمقراطي في السودان من خلال التصويت الإنتخابي ، وصدرت التصريحات المؤيدة لقيام الإنتخابات في السودان عام ٢٠٢٠م من دول الغرب ومن الإتحاد الأوروبي ومطالبة البشير بعدم تعديل الدستور للترشح وكان الدستور الساري المفعول يحرم البشير من الترشح لدورة انتخابية ثالثة في ظل سريان أحكامه ، وراجت الأقوال في الوسائط المحلية عن عروض من الغرب للبشير للإقامة في احدى دول الخليج مقابل عدم الترشح لرئاسة البلاد ، ولكن البشير الذي صدرت عنه تصريحات تؤكد تخليه عن الترشح للرئاسة عاد مجددا وأصر على التمسك بالسلطة وقد وجد التأييد من تيارات داخل حزبه (المؤتمر الوطني) في الصراع الدائر على السلطة بين قيادات الحزب المذكور ، كذلك أيدت الأحزاب الموالية والمستقطبة التي كانت تبحث عن المشاركة في السلطة بأي ثمن إتجاه البشير في مراميه ودعته لتعديل الدستور لتمكينه من الاستمرار في السلطة بلا قيد زمني (مدى الحياة)، وفجاءة حدث التغيير بثورة ديسمبر المجيدة وأحتفى الغرب بالثورة وساندها وشرع الغرب في خلق شراكة مع نخب قوى الحرية والتغيير بأعتبارها ممثلة قوى الثورة كما ولايزال يراهن عليها بشكلها الجديد (تقدم) لتعود إلى السلطة مرة أخرى خاصة ودول الغرب لا تضمن توجهات قيادتى الجيش والدعم السريع ، ولا يزال الغرب يرى الأمور بذات منظار الأمس حينما انتصرت الثورة وأجبرت البشير على الرحيل ، وينتظر ان يفضي التفاوض لتسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية تمثلها قوى (تقدم) وخلال فترة الانتقال وقبل نهايتها تجرى الإنتخابات لتسلم السلطة لحكومة مدنية منتخبة من ذات القوى . هذه هي تصورات الغرب وكأن بالسودان أجهزة تسيطر على الدولة السودانية وتحتكر العنف أو كأن هنالك على الأقل ثوابت بين الأطراف المتحاربة وغير المتحاربة تصلح لقيام انتخابات عامة والقبول بنتائجها واحترامها.
الحقائق على الأرض :
من نتائج الحرب الدائرة حاليا تراجع دور الكيانات والتنظيمات السياسية والحزبية في الدولة السودانية في حاضرها وفي مستقبلها ، وتقنين لظاهرة الجهوية والمناطقية ومن خلفهما أدوار القبيلة والقبائل المتحالفة معها في ظل الصراع على السلطة بالمركز والولايات لسنوات قادمة ، فالقبائل الآن تشارك في الحرب وقد صارت القيادات المتصارعة على السلطة ترمز للمشاركات القبلية سواء في الجيش أو الدعم السريع . ولم تعد أدوات ووسائل الغرب في التدخل لتسوية منازعات السلطة في السودان مجدية أو ذات تأثير(الجذرة والعصا ) بل صارت بالية، وفي ظل هذه الأوضاع لن تأتي أي مساعي خارجية سوى بتأجيل الأزمات المستترة وتعقيدها، لقد وجهت الدعوة لطرفي الحرب للقاء بجنيف وقد شاعت الأقاويل بأن هنالك مشروع لاتفاق سيتم نقاشه في جنيف في الرابع من شهر أغسطس القادم وأنه سيفرض على طرفي الحرب، ومن لا يقبل به ولا يخضع له سيواجه بتدابير صارمة وعقوبات وعزلة دولية وكأن الأمر كله بيدي البرهان و حميدتي أو كأن البلاد الآن ليست خاضعة لعقوبات فعلية يعاني منها المواطن، إن الدولة السودانية الآن ساحة لحروبات تدار بواسطة أجهزة مخابرات خارجية وغالبية مواطني الدولة باتت ترى الحرب في حدود شؤونها الذاتية ونزحت أو لجأت حتى شبابها تتابع وقائع الحرب من خلال الوسائط وتتدافع أمام مكاتب مفوضيات الأمم المتحدة للهجرة .
وسائل وأدوات بالية :
أطراف الصراع تعلم تمام العلم بأن تهديدات الغرب غير جادة ولن يفعل الغرب أكثر من اصدار البيانات والعقوبات غير المجدية في حال الامتناع، كذلك النخب المدنية السودانية التي تتلهف لنتائج هذه المنابر لا تعمل من أجل الديمقراطية وظلت غائبة تماما أثناء الحرب ، كما وظلت بعيدة عن أرض الواقع ومعاناة المدنيين في ظل الحرب الدائرة ولن تجد مستقبلا غطاءً مثل غطاء ثورة ديسمبر المجيدة وجماهيرها الهادرة وبالتالي سيكون الرهان عليها في تنفيذ مخرجات المنابر الخارجية مثل منبري جدة أو جنيف أو غيرهما كالأماني، وستضاف نتائج هذه الجهود المبذولة في خاتمة المطاف إلى اضابير أروقة المنابر الدولية فالظاهرة السودانية الحالية الأكثر تعقيدا من ظاهرتي الصومال وليبيا.
الدروس المستفادة من تجربة انقلاب النيجر :
لم تستفد دولة فرنسا من تجربة الانقلاب على الديمقراطية والرئيس محمد بازوم في دولة النيجر واجبار دولة فرنسا على إخراج حاميتها العسكرية من مستعمرتها السابقة والتي ظلت باقية فيها لحماية استثماراتها الإقتصادية منذ استقلال البلاد ، وبمثلما تغيرت الشعوب فإن ادوات المحافظة على المصالح المتبادلة بين الشعوب في افريقيا في ظل الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية المتغايرة حتى تتحقق رعايتها لا بد من وسائل تضمن احترام الشعوب أولا فالشعوب هي التي تمارس الديمقراطية بوعيها وادراكها وتحافظ عليها ، كما وان الديمقراطية المنشودة لدول أفريقيا التي لا تزال تعاني من الجهل والفقر لم تعد مجرد صوت انتخابي يُدلى به الناخب في موسم انتخابي وشهادة من مراقبين دوليين واعتراف أممي ، ولكن الديمقراطية الحقيقة عبارة عن استحقاق إنتخابي يفتح الآفاق على المعرفة والتنمية والمشاركة في إدارة الدولة والرقابة على السلطة، لن يكون هنالك أي مستقبل لأي تفاوض أو حوار لا في جنيف لا في جدة لا في غيرهما ما لم يتأسس على فلسفة تقوم على ماهية مطلوبات استعادة الدولة السودانية وإدارتها واحترام سيادة حكم القانون فيها،وستظل هذه المنابر قاصرة حيثما ظلت تستدعي النخب لتقوم بتأجيل الحرب الذي تأجل قبل ذلك عدة مرات باتفاقيات تقاسم السلطة وهدن، إن أي اتفاق على شاكلة منبر جنيف إذا نجح سيكون بمثابة تأجيل اتفاقي للحرب بين طرفيها ولن يحقق التأجيل الهدف الأساسي المنشود منه كما وستكون نتائج هكذا تفاوض مجرد بحث عن تهدئة مؤقتة كما حدث من قبل في منابر أخرى ، ولو تم التفاوض تحت مظلة العصا والجزرة الأمريكية – نواصل