،،،،تعلمت في المدرسة،،،، الجزء الأول
الغالى الزين
ا
الطريق إلى المدرسة …
في عام ١٩٦٦ م كنت في السابعة من عمري (تقديراً) ، و التاسعة (يقيناً) لكن دون إثبات غير أني عرفت أن ميلادي كان سنة القمرا ( خنَّقت ) و الوطاة ( ضلَّمت ) و قامت (عجاجه) غطت السما و حجبت الرؤية …. أذكر تماماً ظهيرة ذلك اليوم الذي كان مؤرخاً في ذاكرتي ب( ضِما ) البقر أي يوم ( شِربها ) و كان شِرب (غِب) … كنت صبياً لا أستطيع المساعدة في رعاية ( السعِيَّة ) إلا حمل العصا ، إما سارحاً بالعجول و الماعز ، و جمل ( القيد ) الذي يقيد من رجليه حتى لا يتخطى فلاة مرتعه و يسهل علي متابعته ، أو حابساً و مورِّداً و منظِّماً لورودها الحوض ب ( الطَلَق ) . و الطَلَق مصطلح عند أهل السِعاية هو عبارة عن عدد محدود من القطيع مهما كان نوعه يورد إلى حوض الماء لتفادي المزاحمة في الحوض التي قد تؤدي إلى دلق الماء و التسبب في كسر أو موت الحيوان الضعيف تحت الأقدام … في كل الأحوال و أنا أمارس هذه المهن البسيطة تغمرني السعادة و تدفعني الهمة لأثبت أني أصبحت أتحمل المسؤولية حِجلاً برجلٍ مع والدي أو أخي و أختي الذين يقومون بنشل (الدلو) من بئر ( أم لواي ) لسقيا السعِيَّة … و بئر أم لواي تحفر بواسطة أفراد الأسرة أو القرية عمقها ما بين ثمانية إلى تسعة ( رِجال ) حسب عمق الماء تحت الأرض في المنطقة . و ( الراجل ) هو مقياس من (حبل) يستخدم لقياس الأعماق بدلاً من الأمتار . و كيفية تحديده هو أن يقف الرجل و يضع طرف الحبل تحت قدمه و يرفع الطرف الآخر فوق رأسه على مستوى ارتفاع يديه و وصلهما بطرف الحبل فيقاس عليه ثمانية أو تسعة أو عشرة حبال أو رجال و يصبح هذا القياس محدداً لطول ( الرشا ) الذي يتم بواسطه نشل الماء بالدلو . و مقارنة بالمقاييس العصرية المعتمدة وُجد أن مقياس الراجل يساوي ( متران ) بالضبط أي أن البئر التي طولها ثمانية رجال تساوي ستة عشر متراً و هكذا … و لأن الأرض رملية وهشة تحزم هذه البئر من الداخل ب ( اللواي ) و اللواي يصنع يدوياً من نبات التمام يدرج بلحاء شجر الهشاب في شكل مواسير طويلة و تحزم بها البئر من الداخل لمنع التراب من التسرب إلى قاع البئر ثم تأتي بعدها الخنزيرة و هي ربط نهاية البئر مع عين الماء برباط دائري دقيق و ملتصق من عروق الهشاب حول القاع بدلاً من الطوب الذي لا يتوفر في البيئة . و يستخدم قش التمام و مستخرجات الهشاب لأنها تعطي رائحة ذكية و تقوى كلما تشربت بالماء … من الآثار السالبة التي نتجت عن استخدام آبار أم لواي لفترة طويلة من الزمان هي تعرية التربة من نبات التمام و القضاء على شجرة الهشاب التي تهوى إلى السقوط سرعان ما تنتزع عروقها و تجف سيقانها بعد نزع لحائها فتموت موتة لا حياة بعدها و بهذا تجردت المنطقة تماماً من شجر الهشاب …
و لأن حياة الإنسان لا تتجزأ بل هي مسيرة متسلسلة و متواصلة ، و أن ماضيه لا ينفك من حاضره و مستقبله ، ولأنها مراحل تطور مربوطة بمشاربة و نشأته . لذلك تجدني في هذا المقال تشدني ذاكرتي إلى نشأتي و مشربي و ما أجملها أيام !
كنا نبني و تهدمها الرياح
فلا نضج و لا نثور
كأني اليوم أعيش ذلك اليوم الذي تم فيه استدعائي من ( العِد ) بلغتنا المحلية و (المورد) بالفصحى و نستخدم أيضاً كلمة ( الورود ) من ورد يرد وروداً و هو وارد لمن يرد لجلب الماء أو سقيا البهائم …
جاءت شقيقتي الكبرى لتقف مقامي في حراسة البقر و توريدها و (ألحق) أنا بوالدي عند بيت جدي تيراب (شيخ) القرية رحمه الله …
رأيت جمهرة من الناس تحت شجرة السيال الوارفة المتمددة أمام راكوبة جدي تيراب المخصصة للضيوف ، و أناساً غرباء في هندام و عمائم ناصعة بيضاء ، يقف من خلفهم رجل يرتدي رداء ( شورت ) و قميص من (الكاكي) و يلف ساقيه بقماش (بُنِي) و هو لبس القوات النظامية ، و يحمل بيده بندقية … ترددت قليلاً فوقفت بعيداً خفت أن يكون هؤلاء ( القراريح ) . و القراريح في عاميتنا جمع قراحي و هو الذي يقوم بالتطعيم و هي صحيحة في اللغة . فالقرح يعني الجرح و الألم ، و القروحة أو التطعيم هو جرعة علاج وقائية من الأمراض المعدية تعطى جرعات بالحلق للأطفال أو جرح بسيط بمشرط أو وخزة بإبرة للكبار و الصغار على الذراع تسبب قليلاً من الألم . كان عندما يأتي طاقم التطعيم ( القراريح ) نهرب إلى زرائب البقر أو الغنم أو خلف ( الرُتَّاج ) و هو قصار الأشجار وهي كلمة لم (أجد) لها اصلاً في اللغة فنتخفى وسطها ، و أحياناً نحتمي بأمهاتنا و أخواتنا فيخبئننا خلف (الحجَّال ) أو الحجلة و هي بروش من السعف بألوان زاهية تحاط بها القطية ك( ستائر ) من الداخل . كما كانوا يخيفوننا بالقراحي …
أخدني والدي من يدي و تقدم بي نحو الضيوف خجلاً من الضيوف الغرباء و خائفاً من بندقية الخفير الذي يقف من خلفهم كأنه مصبوباً ، لا تتحرك منه إلا عيناه يمنةً و يسرى كالنسر هو ( خفير العمدة ) محمد الزاكي الملقب بود الزاكي رحمه الله …
قربني ( العمدة ) حاكر بابكر رحمه الله منه و هو عمدة أولاد مرج أحد فروع قبيلة الجوامعة مركز جريجخ و سألني عن أسمي و قلت اسمي ( أُمحُمَّد ) . هكذا كانوا ينادوني يعني (محمد) ، و قال لي سلم على الضيف و كان ضيفه الأستاذ أمين محمد علي ( ود المأذون) كون والده كان مأذوناً رحمه الله ناظراً لأول مدرسة ( صغرى ) في العمودية ( مدرسة جريجخ ) في مروره مع العمدة على القرى لتسجيل التلاميذ للمدرسة رغبة حسب رغبة الاباء و رهبة في وجود و توجيه العمدة ، لأن الناس كانوا (ينفرون) من التعليم و يخافون على أبنائهم من المدرسة التي كانت في اعتقادهم تكسبهم (المعيوعة) ، و تقلل من رجولتهم و تشوه سمعتهم !! …
سألني المدير عن أسمي فبادره والدي بأن اسمي (محمد الغالي) و دار حوار حول الإسم فسألني المدير نكتبك محمد و لا الغالي ؟ فقلت له (الغالي) وتم تسجيلي بإسم الغالي إلى اليوم فأصبح اسمي الرسمي مختصراً من محمد الغالي إلى الغالي … كانت حصيلة التسجيل من قريتنا فقط إثنين من أبانئها ، أنا و ابن عمي حمد علي الذي لم يواصل دراسته من الصف الثاني و قد تم إخفاء بقية الأولاد لعدم رغبة أهلهم في إلحاقهم بالمدرسة إما خوفاً عليهم أو لحوجتهم لهم لرعي البهائم …
تم تحديد مواعيد المدرسة و كنت حقيقة فرحاً بها … طلب والدي من عمي جبارة رحمه الله أن يصنع لي ( عنقريب ) للمدرسة فقام بواجبه وصنع لي عنقريباً صغيراً (قدره) تقديراً على مقاسي حتى يسهل عليَّ حمله و تحريكه في المدرسة . لكنه لم يتوقع أني عندما أنام فوقه ستكون (قدماي) خارج العنقريب ، و أني بعد عام سيزداد طولي و أحتاج لعنقريب آخر . و أهلنا كعادتهم في السابق لم يكونوا ينظرون الى المستقبل . لأن كل أسباب العيش التي تلائم بيئتهم و تسد حاجتهم كانت متوفرة من زراعة و رعي لا غيرها … بالمقابل قامت والدتي هي الأخرى رحمها الله وجزاها و والدي عني خير الجزاء . قامت ب ( ضَفْر ) أو صناعة برش من السعف على مقاس العنقريب ، و هو عوضاً عن المرتبة الوثيرة اليوم … ذهبت مع والدي إلى الدكان للكسوة التي كانت في ذلك الزمان فقط من قماش الدمورية و الدبلان و الساكوبيس و الكِرِب . و أخيراً أعقبها البوبلين و التترون التي ظهرت في بداية السبعين عندنا … لم يكن أمام والدي خيار غير الدمورية لأن سعرها كان مناسباً ( قرشين ) للذراع الواحد و هو أداة القياس الوحيدة المعروفة في المنطقة و لم يكن المتر منتشراً وقته ، و طول الذراع ثمانية و خمسين سنتمتراً … (طقَّم ) لي و الدي (بلغة اليوم) عراقي و سروال و ( توب ) من البرد لكنه في الحقيقة لا (يقي و لا يحمي) من برد . و التوب هو الغطاء الوحيد المتاح للصغار لعدم وجود البطانيات ! ثم أرسل والدي إلى سوق بارا و اشترى لي شنطة ( صفيح ) بمبلغ ربع جنيه ( خمسة و عشرين قرشاً )، مع (طبلة) (كاتو) بمبلغ (خمسة قروش ) ، و كانت طبلة كاتو ماركة جودة مثل ماركة أحذية ( باتا ) . بعد ذلك أخذ مقاس ( قدمي) بالخيط و أرسله لعمنا آدم يوسف الملقب ب ( ود عنقرتين ) . و كان ( زرماطياً ) او ( نُقُلتياً ) ماهراً في ( قطع ) أي صناعة المراكيب من جلد الماعز ، مفردها مركوب و كأنه شُبِّه (بالمُرْكَب ) في شكله و استخدامه و الزرماطي و النقلتي معناهما واحداً و هو صانع الأحذية …. أوصيتُ والدي لعم (آدم) ليزيد لي مسامير (النُقلة) و (وطية) المركوب و ( النُقلة ) و ( الوطية ) هما أسفل النعل يصنعان من جلد البقر لأنه قوي يحمي القدم من غرزات الشوك و الحديد و وصول الحر إلى القدم … و كان الناس يوصون بزيادة المسامير على الوطية و النقلة لتمييز أثرهم على الرمل ، إذ أن الأثر على الرمل يكون بائناً فوق الرمل و يمكن رؤيته في الليلة ( القمراء ) … و يكاد أثر كل فرد في القرية معروفاً . الناس هنا يعرفون أثر الرجل و المرأة و الطفل من الحذاء ، و أثر البعير من الخف و الظفر ، و أثر الأغنام و الأبقار من الظلف …
بمناسبة الأثر هذه حدثت لنا طرفة بقريتنا ، أصبح علينا يوم توافد فيه الناس إلى دكان الحلة الوحيد في الصباح الباكر لشراء القهوة . و القهوة عندنا تشمل البن و السكر و الشاي ، و عندما يقول أحدهم (اشتريت) أو ( بعت ) لي قهوة يعني أنه اشترى السكر و البن و الشاي معاً أو بعض منها . و ورد في اللغة أن البيع بمعنى الشراء و هذه لغة أهل كردفان … توافد الناس أطفالاً و نساءً و رجالاً و كلٌّ يحمل بيده ( خريته ) من القماش أو علبة . و هما الماعونين الوحيدين المستخدمين لحفظ السكر و الشاي و البن وقتها … وجد الناس صاحب الدكان يقص أثر طفلٍ حاول فتح باب الدكان الذي كان من الزنك لكنه لم يستطع الدخول للدكان … تجمهر الناس لقص أثر الطفل ، و من الصدفة كان والده ضمن ( القصاصين ) و عرف ان الأثر أثر ولده و سكت عليه بالرغم من أن الأثر متوجه نحو بيته ! … أثناء ما هم على هذا الحال يتغالطون . حضر (عم) الولد صاحب الأثر و قال للناس في شنو ؟ قالوا ليهو في ( وليد ) كسر الدكان و قاصين ( دربه ) . قال ليهم أقيفو كدي زحوا لي غادي … الناس وقفوا فتقدم قليلاً و أشار بأصبعه للدرب و قال ليهم :
حَرَّم الدرب دا أَنِي عرفتو و أهلنا الجوامعة يقولون أني بفتح الهمزة و كسر النون بمعنى أنا و تقول بعض قبائل كردفان (آنِي) و ( نِي) ، كذلك يقول الليبيون (أني) و يقول العراقيون ( آني) … ابو الولد كان نبيهاً فقال لأخيه : (فلان) ! و بسرعة بديهية استدرك عم الولد و قال : حرَّم ما عرفتو ! … انفجر الناس بالضحك و عرفوا صاحب الدرب من تلميح أبويه و قفلوا الموضوع … بس ( النطَّة ) كانت حلوة ، و المثل بقول ( مية نطَّة و لا واحد بعبوص ) وفي هذه الحالة النطة ما ( عيب ) …
معليش اصبروا علي شوية دا كان تمهيد للوصول للمدرسة … لأن مسافة المدرسة بعيدة شوية من الحلة قلت افضل ( نحلِّي ) طريقنا بالونسة …
قامت والدتي بإعداد الزوادة وهي عبارة عن ( كسرة ناشفة ، و علبة سمسم مزلوط ، و خريتة سمسم مقلي و مفسوخ ، و قزازة سمن ) و يا لها من زوادة ! … ربطت والدتي مفاتيح الطبلة بقطعة قماش و علقتها على رقبتي و أوصتني إلا أنزعها إلا وقت الحمام أو عند فتح الشنطة ! ..وضعت كل الزوادة داخل شنطة الصفيح مع توب الدمورية . بقية ملابسي المكونة في مجملها من ( عراقي و سروال ) فهي بالطبع ستكون معلقة على عاتقي …
خلاص ديك المدرسة ظهرت أمامنا و الحلقة القادمة بعنوان :
الوصول إلى المدرسة …
الغالي الزين
2024/6/25 ,