تشكل منصة جنيف فرصة قد تكون الأخيرة أمام الشعب والجيش السوداني لوقف حرب عبثية دمرت مقدراته الحالية والمستقبلية على المستويين العام والشخصي للأفراد. من هنا كانت حالة الترقب والمتابعة غير المسبوقة من الجمهور بشأن موقف قائد الجيش من هذه المنصة ومدى قبوله للانخراط في عملية تفاوضية مع قوات الدعم السريع، في ضوء ضغوط مفردات النظام السياسي للرئيس المنتهية ولايته، عمر البشير. في هذا السياق، فإن موقف تصريحات رئيس الوفد المفاوض محمد بشير أبو نمو شكل صدمة للرأي العام السوداني من حيث الشكل والمضمون. من حيث الشكل، تم تجاهل إعلان الموقف من جانب الطرف الرئيس في معادلة التفاوض، أي قائد الجيش، ربما لخلق مساحة للتراجع لقائد الجيش أو ممارسة ضغوط عليه من جانب حلفائه لعدم قبول مبدأ التفاوض، وهو سلوك تم ممارسته أكثر من مرة وأثمر بالفعل عن تراجع الفريق البرهان من منصات مثل جدة والبحرين وغيرهما. أما من حيث المضمون، فإن هذا اللقاء وفر اعترافًا من الجانب الأمريكي بالحكومة السودانية، وهو مكسب لم يتم تقديره من الجانب الحكومي على نحو صحيح. حيث جاء تقدير الموقف من جانبهم له أبعاد عاطفية وليس عملية وواقعية. ولكن يبقى أن محور اللقاء التشاوري بين وفد الحكومة السودانية وممثلي الإدارة الأمريكية، وفقًا للتسريبات، هو رفض أن يكون هناك مسار سياسي موازٍ للمسار التفاوضي المرتبط بعملية وقف العدائيات ووقف إطلاق النار. أي أنه من المطلوب سيطرة الجيش السوداني على المعادلات السياسية المستقبلية، وهو ما سبق أن عبر عنه الفريق ياسر العطا أكثر من مرة. أما من حيث التصريحات، فإن مقولات وزير الإعلام السوداني، غراهام عبد القادر، بشأن الموقف من منصة جنيف تبدو مرتبكة، وذلك بشأن رفض وجود مراقبين للمباحثات، وفي الوقت نفسه الترحيب بالمبادرات التي تحفظ سيادة البلاد. ذلك أن المراقبين هم أصحاب المبادرات، سواء كانوا من المملكة العربية السعودية أو مصر، وهو الأمر الذي سبب الارتباك. وفي ضوء موقف الحكومة السودانية وقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان من مباحثات جنيف، والذي نعتبره غير نهائي حتى كتابة هذه السطور، فإن موقف الإدارة الأمريكية قد حدده المتحدث باسمها توم بيريليو، الذي قال إن منصة جنيف ستبدأ العمل غدًا مع الأطراف الدولية والإقليمية وبمن يحضر من السودانيين. وقد جاء هذا الموقف من جانب بيريليو، في تقديري، لسببين: الأول أن حجم الكوارث الإنسانية في السودان مرعب وقاسٍ على النفس البشرية، سواء فيما يتعلق بفقدان عناصر الأمن الإنساني من قتل وجوع وكوارث مناخية، أو بالنزوح المليوني داخل وخارج السودان، وكلها أمور تضع ضغوطًا داخلية على الإدارة الأمريكية في ضوء الانتخابات المرتقبة التي يتمتع فيها الأمريكيون من أصول إفريقية بوزن تصويتي لا يستهين به لا الديمقراطيون ولا الجمهوريون. الأمر الثاني هو أنه قد يكون من غير المقبول بالنسبة للمتحدث الأمريكي وإدارته ألا يتم تقدير تنازل قائد الجيش الكبير بشأن الاعتراف الضمني بالحكومة السودانية التي تُوصف دوليًا بأنها حكومة انقلابية. وعلى الرغم من ذلك، تم القبول بها في اللقاء التشاوري الذي جرى قبل الموعد الرسمي لعقد منصة جنيف، بل وتم مخاطبة البرهان من جانب بلينكن بوصفه رئيس مجلس السيادة، وهو الموقع المختلف عليه بعد اندلاع الحرب السودانية. وقد يكون التحدي الأكبر الذي يواجهه قائد الجيش السوداني في هذه اللحظات الدقيقة هو اعتماد قوات الدعم السريع كبديل للجيش كمخرج من مخرجات جنيف، وذلك كآلية لتوصيل المساعدات الإنسانية للسودانيين في مناطقهم، خصوصًا مع سيطرة الدعم السريع على مناطق معتبرة من التراب الوطني للبلاد. ويرجح هذا التقدير ظهور مقولات محمد حمدان دقلو (حميدتي) عشية تفعيل منصة جنيف، كطرف جاهز ليس فقط بقبول التفاوض، ولكن أيضًا بأدوار على الأرض ترفع الحرج عن الأمريكيين في هذا التوقيت الحرج. وذلك بخارطة طريق تفصيلية بشأن قدرات قواته في هذا المجال، التي قال إنه سيشكل منها قوة تتولى حماية المواطنين وكذلك توصيل المساعدات الإنسانية، مع ضمان حماية موظفي المنظمات الدولية العاملين على الأرض، والتنسيق مع الإدارات المدنية الموجودة بهذا الشأن، وكذلك تسهيل العودة الطوعية للنازحين والمتأثرين بالحرب إلى مناطقهم، والتنسيق مع الوكالة السودانية للإغاثة والعمليات الإنسانية. في حال قبول خارطة الطريق التي يطرحها حميدتي من جانب الأطراف المجتمعة في جنيف، ربما تكون الخيارات المطروحة أمام الفريق عبد الفتاح البرهان والحكومة المرتبطة بنظام البشير جد حرجة، وذلك في ضوء عدد من المعطيات التي نوجزها في التالي: أن البدائل أمام المجتمع الدولي تبدو جاهزة في حالة غياب القوات المسلحة السودانية عن منصة جنيف، وذلك لتفعيل أجندة قد لا تلبي بالضرورة مصالح الأمن القومي السوداني، التي يدافع عنها الجيش وتعد من أهم مهامه الوطنية، بقدر ما تلبي أجندة خارجية، خصوصًا أمريكية مرتبطة بالانتخابات الأمريكية. أن إمكانية تصحيح الميزان العسكري لصالح الجيش في زمن معقول تبدو بعيدة، وذلك نظرًا لارتباط ذلك بعوامل خارجية ذات حسابات معقدة. أن العون الاستنفاري من جانب الأطراف المتحالفة مع الجيش بات مكلفًا، بل ومهددًا بتفكيك الدولة، حيث إن الفصائل المسلحة تتطلع إلى مقعد لها إلى جانب الجيش القومي في المباحثات والتشاورات الدولية. بينما إنقسامات النظام القديم بسبب الضغوط عليه وافتقاده القدرة على المراجعة العلنية والاعتذار للشعب السوداني عن ما مارسه من فساد سياسي ومالي، تبدو مفقودة. حيث لم يبلور أطراف النظام القديم بعد موقفًا يجعلهم يحوزون مكسبًا بأن يكونوا جزءًا من المعادلة المستقبلية، بدلاً من أن يخسروا موطن المعادلة بالكامل أي السودان. أن القبول السوداني العام بمبدأ التفاوض بات واسعًا، نظرًا لاحتياج الناس للعودة إلى بيوتهم ومناطقهم وبلادهم. وذلك مع اختبار أن تشدد الجيش السياسي ضد قوات الدعم السريع لم ينعكس عسكريًا على الأرض، ولم يتسبب في دعم خيار العودة، بل لم يجعل هذا الخيار موجودًا إلا في الأفق الإعلامي الدعائي فقط. أن قيام الدعم السريع بمهام إنسانية للمدنيين بدعم دولي سوف يخلق تفاعلات جديدة إيجابية مع المدنيين، ويعيد وشائج سبق وأن خسرتها قوات الدعم السريع في المرحلة الماضية بسبب الانتهاكات الواسعة التي ارتكبتها وتمت إدانتها دوليًا بسببها. أن إقليم دارفور في هذه الحالة سيكون من الأقاليم التي ستتيح للدعم السريع نقاط ارتكاز رئيسية لمشروعها، وقد يكون رأس الرمح في عملية تقسيم السودان التي باتت مرئية. في المقابل، لا أرى مكسبًا فعليًا يمكن أن يحققه الفريق عبد الفتاح البرهان بالغياب عن منصة جنيف. ذلك أن حلفاءه أضعف فعليًا من أن يقدموا إسنادًا داخليًا كان من شأنه فرض أجندة مغايرة للمطروح حاليًا، كما أن وجوده على مائدة التفاوض من شأنه أن يعدل من المطروح عليه، خصوصًا إن وجد دعمًا إقليميًا أظن أنه متوفر للقوات المسلحة السودانية باعتبارها جيش البلاد القومي.