حرب الطيران الحربي ضد المواطنين
لا أعتقد أننا نختلف في أن السوداني في وطنه هو سوداني أينما كان. كما أن أي جريمة تتبع مرتكبها بالأصالة ، ” الجريمة كلب تابع سيدو” كما يقول مثل سوداني سائر، وليس أي شخص آخر، مهما كانت صلتة، مناطقيا أوقبليا أوجهويا. وبهذا فإن تصنيف بعض المدن والمناطق في ولايات دارفور وكردفان تحديدا بأنها “حواضن” للدعم السريع، وما يتبع ذلك من أن المواطنين الذين يقطنو ن تلك المدن (والأرياف) هم أهداف مشروعة للقتل الجماعي والترويع، هولا شك تصنيف خارج القانون. ليس ذلك فقط إنما يعيدنا هذا السلوك الي عصورسحيقة عندما كان العقاب الجماعي هو القانون واليد الباطشة ل” القوِي علي الضعيف”. والأدهي من ذلك وأمر، هو سهولة تصنيف جرائم الطيران الحربي التي طالت مواطني مدن وأرياف تلك “الحواضن” ، كاستهداف عنصري من قبل الكثيرين ، حتي ممن هم من خارج تلك المناطق. هل نلوم المستهدفين حين يعتقدون ذلك ، وعندما يرون أن الطيران الحربي يستهدفهم بالقتل الجماعي بطرق مباشرة وغير مباشرة بضربه لمرافق المياه والكهرباء والمستشفيات والأسواق الاسبوعية.
عندما يتولي قادة الجيش والدولة كِبَر الدعوة الي استهداف الحواضن وتوجيه الطيران الحربي الي ضربها -أي ضرب وقتل أهل جنود الدعم السريع- أومواطن القبائل المشتبه بانتماء بعض ابنائها للدعم السريع، فقد تم فتح الباب واسعا لإستشراء خطاب الكراهية. وتكتمل الحلقة الشريرة عندما يتبعهم لايفاتية داعمي الحرب وسفهاء كثر علي فضاء وسائل التواصل الاجتماعي يدعون الي إبادة تلك الحواضن بل وإلي قتل الأمهات اللائي يلدن من يمكن أن يصبحوا ” دعامة” مستقبلا. ألا يعلم هؤلاء أن مثل هذا الهراء الفالت والتحريض علي القتل بهذا الشكل هو دعوة للإبادة الجماعية لمجموعات قبلية/اثنية بعينها. وبدلا من أن تكبح قيادة الجيش والدولة الرسمية هذا الخطاب، تبدو (مبسوطة) منه، لأنها مستمرة في توجية الطيران الحربي بضرب وقتل من يتواجدون أو يقطنون في تلك الحواضن. لقد اتخذ خطاب الكراهية منحي خطيرا في الايام الأخيرة إذ ظهر أحدهم، وهو رجل مسن ربما فوق السبعين من العمر ، أمام خلفية عليها اسم وشعار الاتحاد الاشتراكي ، سئ الذكر من زمن النميري ، وهويقول -بعد حديث سقيم- ” يريدوننا أن نسكت ولن نسكت ، نحن في وسط السودان عنصريون، عنصريون، ولن نسكت بعد الان”. لا حول ولا قوة الا بالله.
وإمعانا في الاستهداف يتبعون توجيه الطيران بضرب ما سمي ب”الحواضن”، بقوانين، مثل قانون الوجوه الغريبة، علي من يتواجدون في مناطق/حواضن معظم ضباط الجيش، الولايات الآمنة . يُطبًق القانون علي من يُشتبه في أنه ليس من المنطقة ، خاصة اذا اتضح من أوراقه الثبوتية أو لهجته -وهو نازح- أنه من مواليد ولايات غرب السودان التي ينتسب اليها معظم محاربي الدعم السريع. بل وتُعقد للمشتبه فيهم محاكم ‘كانقارو‘ * كالتي عقدت للصادق الطاهر ضو البيت مؤخرا والذي أصبح حكمها مادة متداولة في وسائط التواصل الإجتماعي. الطاهر ضوالبيت من مواليد جنوب دارفورومريض يعاني من الفشل الكلوي، ومثل كثيرين نزح الي عطبرة بصحبة إبنيه الصادق وعادل طلبا للعلاج. المحاكمة المذكورة تمت بعد عدة اشهر من إبقاء أبنائه في الحجز في مخافر الأجهزة الأمنية ، وأصدر القاضي حكمه ، في غياب الشاكي والمتحري -وفقا لتسجيل متداول لوالد المحكوم عليه. وكانت حيثيات الحكم وفقا لما هو متداول (مثلا تسجيل صوتي للصحفي محمد لطيف 27 سبتمبر24) وجود كلمتي بل بس، في جواله، مما اعتبره القاضي الهمام “استهزاء”، وبناءا عليه أصدرالحكم بالسجن عشرين عاما علي المتهم. لا ادري بماذا حَكَم قراقوش الذي يضرب به المثل في جور الحُكم، ولكن فيما يبدو فقد ظهر في زمننا الأعجف هذا، علي الأقل قاضي واحد ينافسه أو يبذه في جور الأحكام . وللأسف هذه ليست المرة الاولي ، فقد تم في الشهر الماضي الحكم بالاعدام علي الشابة الدُرحمدون حامد (24 عاما) ، مسيرية ، تعود أصولها الي غرب كردفان، بمحكمة جنايات عطبرة لوجود روشتات علاجية للمركز الطبي الذي كانت تعمل به من قبل الحرب، في منطقة شرق النيل الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، بتهمة التخابرمع العدو، والقضية الان في الاستئناف.
لا أدري متي بدأت علي وجه التحديد فكرة/استراتيجية ضرب الحواضن بدلا عن قوات الدعم السريع. في تقديري ربما بعد أن خسر الجيش معظم مواقعه والقيادة العامة داخل العاصمة، و ربما بعد توالي سقوط حامياته بانسحابات قواته، أو هروبها، من أمام قوات الدعم السريع في كل من الجزيرة و سنجة ومن بعض المناطق في غرب كردفان وغيرها. إن صح افتراضي حول التوقيت الزمني او لم يصح، فإن هذه الاستراتيجية هي ردة فعل يائسة وسياسة كارثية علي الجيش. أقول ذلك لأنها فش غبينة ساي، مثل قولهم في المثل السوداني البالي -والمستهجن حاليا- “غبينة الحُرة بفشٌوها في الخادم”، إذ عندما لم تستطع قوات الجيش السوداني مواجهة وهزيمة الدعم السريع في ميادين القتال ، استعاضت عن ذلك بضرب ما أسموه حواضنهم، أي أسرهم و أهلهم كافة وكل من يتواجد في تلك المناطق من كل الاثنيات. أقول ذلك بسبب أن استهداف الحواضن لن يشكل -بحد ذاته- نصرا للجيش علي الدعم السريع في الميدان، كما أن استهداف المدنيين قد يجلب عليه وعلي قادته دعاوي قانونية وخيمة العواقب مستقبلا. كما أنها لا تقل كارثية في آثارها علي الشعب السوداني، حيث أنها -لا قدر الله- قد تقود الي حرب أهلية شاملة يكون القتل فيها علي الهوية الذي لن ينجو منه أحد، إلا الذين ينفخون في نار الحرب وهم عنها في مأمن في دول المنافي البعيدة (عليهم لعنة الله).
للأسف فإن استهداف الطيران الحربي للمدنيين لم يبدأ في الحرب الحالية وإنما منذ مدة، في حربه ضد ‘ المتمردين‘ في كل من جبال النوبة ودارفور. وقد نبهني الي هذا ووفر لي بعض المعلومات هيئة محامي دارفور، فالشكر لها ورئيسها الاستاذ الصادق علي حسن. وفي دارفور علي وجه التحديد فقد بدأ الطيران الحربي في استهداف مصادر المياه وتلوث البيئة في عام 2016 ، ويقول تقرير أمنستي انترناشونال الصادر في 29 سبتمبر2016 بأن الجيش استخدم اسلحة كيماوية في دارفور أدت الي مقتل 200 شخص جراء صعوبات في التنفس والتقيؤالخ. وخلال الحرب الحالية قام الطيران الحربي بغارات بالبراميل المتفجرة علي مواقع مختلفة في دار فور شملت من ضمن أخري مدن الفاشر، نيالا ، الضعين ، زالنجي و الجنينة والحقت أضرارا بالغة بمصادر المياه والبيئة. وفي 27 ابريل استهدف الطيران مصادر المياه بمناطق كبكابية والزاوية غرًة وجديد السيل. وبتفصيل أكثر نري أدناه نتائج قصف ما سمي بحواضن الدعم السريع في كل من دارفور وكردفان:
نيالا: تمت خلال الاشهر الاربعة الماضية عمليات قصف شملت أربعة اسواق ، كما تم قصف المستشفي ومحطة كهرباء ومياه نيالا، والكبري الرابط بين طرفي وادي نيالا. وقبلها بعدة أشهر تم قصف كبري طيبة وكان عدد الضحايا 23 أغلبهم من النساء والاطفال، وأخيرا تم قصف وتدمير المطار بعد الحديث عن هبوط طائرة مجهولة الهوية به.
الضعين: سوق المدينة تعرض ثلاث مرات للقصف الجوي مما أدي لمقتل وإصابة العديد من المدنيين
الفاشر: تم قصف سوق المواشي مرتين وكذلك مستشفي الأطفال ومحطات الكهرباء والمياه، ومنذ شهرين تتعرض المدينة للقصف يوميا أكثر من مرة (بسبب وجود الدعم السريع داخل المدينة).
كتم: تم قصف المدينة خمس مرات وطال القصف المستشفي والسوق
الزُرق : تم القصف بالبراميل المتفجرة (كما هو الحال في معظم الغارات ) ودمر 15 مصدرا للمياه من أصل 18 بالمنطقة مما أدي نزوح غالبية سكان المنطقة وهم من الرعاة الرحل.
مليط: تم قصفها نحو 13 مرة وطال القصف مجمع آبار- حيث ابيدت فيه بين 250-300 من الابل وعدد سبعة أشخاص من أصحابها وهي تستسقي لأول مرة من تلك الابار. كما تم قصف السوق أكثر من مرة ، و تم آخر قصف للمدينة يوم الجمعة 4 اكتوبر راح ضحيتة عدد 8 أشخاص من أسرة واحدة، كما تم كذلك قصف المستشفي.
الكومة (شرق الفاشر): تم قصف المدينة وحواليها بين 12-15 مرة كان آخرها يوم الجمعة 4 اكتوبر الحالي حيث تم قصف السوق الاسبوعي للمدينة بالبراميل المتفجرة بتوقيب واضح القصد ليحدث أكبر عدد من الخسائر البشرية . تم القصف الساعة العاشرة صباحا (وقت عمارالسوق) وفي يوم السوق الأسبوعي حيث يكتظ سوق المدينة بالمتسوقين من القري القريبة ، وكانت حصيلة القصف أن لقي تسعون (90) شخصا حتفهم بينهم نساء وأطفال وبعض كبار السن ، بالاضافة الي عدد كبير من الجرحي ، كان في البداية حوالي 250 شخصا توفي عدد كبير منهم بسبب انعدام الاسعافات والادوية اللازمة.
حمرة الشيخ-شمال كردفان: آخر قصف تم يوم الجمعة 4 اكتوبر الحالي وهو يوم السوق في الحمرة ، وراح ضحيته نحو 30 من القتلي وأكثر من مائه ( 100) من المصابين وفقا لبعض المصادر.
المجلد-غرب كردفان: حوالي 3 مرات
بابنوسة-غرب كردفان: تم قصفها عدة مرات ودمرت أغلب مبانيها ومؤسساتها
من الملاحظ أن الطيران استهدف الأسواق عموما و بشكل خاص عندما تكون تلك الاسواق مكتظة بالمواطنين كما حدث في سوق مدينتي الكومة والحمرة مؤخرا ؛ أو مصادر المياه (دوانكي، آبار) التي يعتمد عليها المواطنون في الحصول علي الماء لهم ولمواشيهم ،وهي أيضا أماكن ازدحام ، بالاضافة الي ذلك تم استهداف المستشفيات ومحطات المياه كما حدث في الفاشر ونيالا. والاستنناج الواضح هوأن الهدف من الهجوم المتواصل للطيران علي ما سمي بالحواضن هو ايقاع أكبر عدد من الضحايا من المواطنين الابرياء من النساء والاطفال وكبار السن.
من المعروف أن الحرب رغم عدم اخلاقيتها في المقام الاول، هي أيضا لها قوانين أخلاقية وأولها عدم استهداف المدنيين. إن العقوبة الجماعية لقبائل وأثنيات بعينها باعتبارها مصادر/حواضن للدعم السريع تقوم علي افتراض خاطئ، لأن أغلب تلك القبائل لها أبناء يحاربون مع الجيش أيضا. وإذا كان القصد هو التخويف فإن ذلك للأسف لن يتحقق، بل قد يتحقق ما هو عكسه تماما إذا ما فهم أهل تلك الحواضن أن القصف المتواصل لمناطقهم هو بداية لحرب إبادة كاملة لهم. في جميع الأحول عند السودان ما يكفيه من المحن والكوارث والأوجب ألا نزيد نيرانه حطبا.
نسأل الله أن يهدي المتحاربين جميعا سواء السبيل ، حتي يجنبوننا انزلاق السودان الي مصير لا يدري أحد مدي سوئه. و الحقيقة فإن المسؤلية الأكبر الآن تقع علي عاتق الجيش ليري أبعد من استرتيجيات قاصرة مثل قصف الأبرياء ، وخاسرة ومدمرة لكل السودان ، قد تؤدي الي اشتعال حرب أهلية شاملة تحرق أخضر السودان ويابسه. وأري أن من واجب جميع أطراف الحرب وداعميها أن يكبحوا هذا الشطط المجنون والمتنامي في نفخ كِير نار الخطاب العنصري. كما علي القوي المدنية عموما أن تسعي بكل الوسائل لتبيان مخاطر خطاب الكراهية المتنامي ونتائجه الكارثية علي كل السودان.
السادة قادة الجيش أنتم في يدكم توجيه الحرب وتوجيه قواتكم لضرب عدوكم في الميدان -الدعم السريع- وهو حقكم الطبيعي، ولا تحتاجون للتذكير أن من واجبكم تجنيب المدنيين من كل شاكلة ولون المعاناة من ا لحرب وحمايتهم من الإصابة برصاص الأسلحة الخفيفة ومن شظايا المدافع الثقيلة ما أمكن ذلك ، ومن قصف الطيران الحربي وهو ما تحت إمرتكم. كثيرون قد يعتقدون إنني بمثل هذا الحديث كمن يحرث في البحر، ولكني ما زلت آملا في فعل الخير من كل حسب استطاعته وواجبه وما يمليه عليه ضميره تجاه الوطن.
السيد الفريق أول عبد الفتاح البرهان وبصفتيك، كقائد عام للجيش وكرئيس لمجلس السيادة، لقد كررت كثيرا في خطاباتك بأن ” الحِصًة وطن” ، فهلا فعلت ما تمليه عليك مسؤولية الوطن. إن لم تجنح للسلام الآن فعلي الأقل جنٍب السودان الانحدار نحو االتشظي والإنقسام ، ” أوقف استهداف الطيران للمواطنين الأبرياء” في كل بقعة من السودان (اليوم 7 اكتوبر تم استهداف سوق فوربالحصاحيصا) ، أعمل علي إيقاف خطاب الكراهية، وأحذردعوات المظلومين. قالت امرأه فقيرة ترعي في ماعز لها في ريفي الكومة بشمال دارفور تم قصف ماعزها (نعيزها -باللهجة المحلية) قالت بعد القصف وبعد أن رفعت يدها عالية الي السماء ، ” أني مرة و زَرقة (أي لاحول لي ولا قوة) وما عندي شغل بلا نعيزي ديل (ليس لي شئ غيرها) ، يا البرهان شكيتك لي الله القوِي أبو إيدا ما بتنلوي” وكررتها عدة مرات. وظنٍي أن دعوتها وأمثالها ليس بينها وبين الله حجاب.
• يعود مصطلح محاكم الكانقارو الي القرن الثامن عشر في الغرب الأمريكي، حيث كان يكثر الاستراليون الباحثون عن الذهب هناك . ويعني محاكم شكلية عاجلة، لا تراعي الإجراءات الضرورية الواجبة للوصول الي الحكم العادل، بل تقفز(مثل حيوان الكانقارو) مباشرة الي الحكم المقرر سلفا، بتجاهل أي دليل يكون في صالح المتهم. والمعروق أن حيوان الكانقارو -وموطنه استراليا- يقفز في مشيه.
211
د. صديق أمبده