على الرغم من التعقيدات التي ظلت تلازم الدولة السودانية لعقود، والتحذيرات من قرب الكارثة، التي بدت وشيكة بعد انقلاب العسكر على الحكومة الانتقالية، إلا أن المحاولات لإيجاد مخرج لم تتوقف. ومع بداية العام 2023 انطلقت الأطراف السودانية في حوار موسع من أجل الوصول إلى اتفاق نهائي يعيد البلاد إلى مسار الانتقال الديمقراطي. إلا أنه سرعان ما انهار على عتبة الإصلاح العسكري ليجد السودانيون أنفسهم في مواجهة حرب طاحنة دمرت العاصمة الخرطوم قبل أن تتمدد في أنحاء البلاد المختلفة مخلفة آلاف القتلى وملايين النازحين، بينما انهار الاقتصاد وتدمرت البنية التحتية في البلاد.
وبعد نحو شهر من توقيع الاتفاق الإطاري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كل على حدة ومكونات الحرية والتغيير والجبهة الثورية التي تضم حركات مسلحة وتنظيمات أخرى، انطلقت في التاسع من كانون الثاني/يناير الماضي، المشاورات حول القضايا التي لم يحسمها الاتفاق الإطاري.
كان الاتفاق يهدف إلى إنهاء الأزمة السودانية واستعادة الحكم المدني حيث تعهدت الأطراف العسكرية بتسليم السلطة للمدنيين والالتزام بمهام حماية البلاد.
ودارت النقاشات وقتها عبر اجتماعات وورش عمل موسعة ناقشت القضايا الخلافية الأربع التي أجلها الاتفاق الإطاري والتي شملت العدالة وانتقال السلطة وتفكيك تمكين النظام السابق فضلا عن الإصلاح الأمني والعسكري الذي كان القشة التي قصمت ظهر الاتفاق وأدخلت السودان في أتون حرب مدمرة.
وكما هو متوقع، بدأت الخلافات المكتومة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع تظهر على السطح. حيث اشترط رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان دمج قوات الدعم السريع في الجيش للمضي في دعم الاتفاق الإطاري.
وقال في خطاب أمام المواطنين بولاية نهر النيل في 17 شباط/فبراير الماضي إن قيادة القوات المسلحة وافقت على الاتفاق الإطاري لأن فيه بندا مهما جدا يتعلق بدمج قوات الدعم السريع في الجيش، مضيفا: «هذا هو الفيصل بيننا وبين الحل الجاري الآن وأي كلام غير هذا لن يكون مقبولا، ولن يذهب أحد في الاتفاق للأمام من دونه».
بعدها بأيام قليلة، دعا نائب رئيس المجلس السيادي وقتها، زعيم قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي» إلى مؤتمر صحافي، بمقر رئاسة قواته اتهم خلاله الإسلاميين بمحاولة الوقيعة بينه وبين الجيش. وشدد على أن الجيش لن يكون مطية لحزب أو جهة على حد قوله، في إشارة إلى أن الإسلاميين يتحكمون في قيادة الجيش.
ومع تصاعد الخلافات بين البرهان وحميدتي، حذر حاكم إقليم دارفور مني اركو مناوي فيما يشبه النبؤة من نهاية الخرطوم في رمشة عين. وطالب قادة الجيش والدعم السريع بحل خلافتهم قبل خراب البلاد، داعيا من وصفهم بالمحرضين إلى عدم الاستثمار في هذه الخلافات.
بعدها توالت محاولات الأطراف المحلية والدولية للتسوية بين البرهان وحميدتي.
وفي 20 آذار/مارس أكد رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس في إحاطة أمام مجلس الأمن، أن الحل لإنهاء الأزمة السياسية في السودان أصبح أقرب من أي وقت مع أن التحديات لا تزال قائمة.
وعلى الرغم من النبرة التي بدت متفائلة لرئيس البعثة الأممية إلا أن الخلافات بدأت تتفاقم على نحو غير مسبوق بين الأطراف العسكرية، مطلع نيسان/أبريل حيث شهدت العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور غرب البلاد عمليات تحشيد عسكري واسعة، بلغت ذروتها عند إرسال حميدتي قواته إلى قاعدة مروي الجوية التابعة للجيش شمال السودان، متحديا أوامر قيادة الجيش التي طالبته بالخروج من المنطقة.
بالتزامن تسارعت تحركات القوى المدنية لاحتواء الأزمة، حيث عقد فريق الوساطة المكونة من أحزاب وحركات مسلحة، اجتماعات مع القادة العسكريين في محاولة لجمع البرهان ونائبه وقتها قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو «حميدتي» في لقاء مشترك، يهدف إلى نزع فتيل الأزمة.
وقالت في بيان قبل ساعات قليلة من اندلاع الاشتباكات، أنها التقت البرهان مساء الجمعة 14 نيسان/ابريل الماضي، وأنها وجدت لديه روح إيجابية لحل الأزمة، وذلك بعد اجتماع آخر عقدته مع «حميدتي» أبدى خلاله التزامه بوقف التصعيد والاجتماع بالبرهان بدون قيد أو شرط.
وقتها حذر المتحدث باسم لجان «مقاومة الخرطوم» محمد طاهر من قرب الكارثة، مؤكدا لـ«القدس العربي» أن البرهان و«حميدتي» سيضيّعان السودان، وأن استمرارهما في السلطة مشكلة خطيرة قد تؤدي إلى انهيار البلاد.
انفجارات وتبادل إطلاق رصاص
لم تكد تمر إلا ساعات معدودة، عندما استيقظ السودانيون يوم السبت الموافق 15 نيسان/أبريل الماضي، على دوي انفجارات وأصوات تبادل إطلاق رصاص في محيط القصر الرئاسي وقيادة الجيش وسط الخرطوم بالإضافة إلى الحامية العسكرية للدعم السريع في المدينة الرياضية شرق الخرطوم، معلنة اندلاع حرب طاحنة دمرت العاصمة السودانية الخرطوم قبل أن تتمدد في أنحاء البلاد المختلفة مخلفة ملايين النازحين وآلاف القتلى والجرحى والمفقودين، بينما انهار الاقتصاد وتدمرت البنية التحتية في البلاد.
في يوم الحرب الأول، بينما كانت تتصاعد حالة الذعر وسط المدنيين، قال الجيش في بيان مقتضب، إن قواته تتصدى لـ«الدعم السريع» متهما إياه بمهاجمة الجيش في عدة مناطق في البلاد.
ووصفها بـ«الغدر والخيانة والتمرد على قيادة الجيش». بالمقابل قالت قوات الدعم السريع، أنها تفاجئت صباح السبت، بأن الجيش يضرب حصارا على قواتها في منطقة سوبا جنوب الخرطوم، وينهال عليها بهجوم كاسح بكافة أنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة واصفة اللحظة بالتاريخية الحرجة. وأكدت «أن ما تقوم به من تحركات في إطار الدفاع عن النفس بعد هجوم الجيش على قواتها في العاصمة الخرطوم ومناطق أخرى».
في 6 آيار/مايو، بعد ثلاثة أسابيع من المعارك العنيفة، بدأ الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، مفاوضات غير مباشرة، استضافتها مدينة جدة، بمبادرة أمريكية سعودية، كانت الأولى من نوعها منذ اندلاع القتال بين الجانبين.
بعدها بإسبوع وقع الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على إعلان جدة لحماية المدنيين، وتتابعت سلسلة من إعلانات الهدنة القصيرة التي اتسمت بالهشاشة والخروقات الواسعة بين الجانبين لتتعثر المباحثات بين الجانبين، وتمضي البلاد نحو أوضاع أكثر كارثية.
وفي منتصف حزيران/يونيو، بينما كانت تتصاعد المعارك على نحو مروّع في إقليم دارفور، غرب السودان، قتل والي ولاية غرب دارفور، خميس أبكر، وسط اتهامات متبادلة بين الجيش وقوات الدعم السريع وأطراف مسلحة أخرى بتصفيته والتمثيل بجثته.
وأظهر مقطع مصور أبكر ملقيا على الأرض وغارقا في دمائه، مع آثار لثلاث طلقات نارية في الرأس والصدر والبطن، بينما تهتف مجموعة تتحلق حوله بـ«التكبير» و«التهليل» وتقول إنها قتلت الوالي. وظهرت أجزاء فقط من أطراف تلك المجموعة التي كانت ترتدي زي قوات «الدعم السريع».
وقبل ساعات قليلة من مقتله، اتهم أبكر قوات «الدعم السريع» ومجموعات مسلحة موالية لها بارتكاب انتهاكات واسعة وجرائم إبادة جماعية في الجنينة، منددا بعدم تدخل الجيش. الأمر الذي نقل الحرب السودانية إلى مرحلة جديدة.
انتهاكات تستهدف المدنيين
مع احتدام المعارك أصبحت أكثر من 80 في المئة من المستشفيات في السودان خارج الخدمة، فيما 50 في المئة من المصانع الدوائية جرى نهبها، وكل ذلك وسط انتهاكات تستهدف المدنيين، ما استدعى إطلاق صرخة من الجبهة الديمقراطية للمحامين لإجراء تحقيق دولي، نهاية تموز/يوليو.
وبعد أشهر قضاها بعيدا عن الأنظار، ظهر البرهان في 25 آب/أغسطس في مدينة أمدرمان غرب العاصمة السودانية الخرطوم وقاعدة وادي سيدنا العسكرية، حيث خاطب الجنود، مؤكدا أنه لا يحارب من أجل فئة أو جهة وإنما من أجل السودان. قبل أن يتوجه إلى مدينة بورتسودان شرق البلاد والتي أصبحت العاصمة الإدارية بعد اندلاع حرب 15 نيسان/أبريل.
وكانت قوات «الدعم السريع» تتحدث عن أن البرهان محاصر في مقر القيادة العامة للجيش، وسط الخرطوم التي ظل محيطها يشهد قتالا مستمرا بين الجانبين.
ومع تصاعد وتيرة الانتهاكات في 6 أيلول/سبتمبر، أعلنت وزارتا الخارجية والخزانة الأمريكية فرض عقوبات على نائب زعيم قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، الأخ الأكبر لـ «حميدتي» وقائد قطاع غرب دارفور، عبد الرحمن جمعة. وتضمنت حظر الممتلكات والمعاملات ومنع الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية اتهامات بارتكاب فظائع وانتهاكات في إقليم دارفور، بما يتضمن عمليات قتل بدوافع عرقية، وانتهاكات مستهدفة ضد النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، فضلا عن جرائم العنف الجنسي المرتبط بالنزاع، ونهب وحرق المجتمعات المحلية.
بالتزامن أعلن مدعي المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، فتح تحقيق حول مزاعم ارتكاب جرائم حرب غرب دارفور، خلال المعارك المندلعة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي، مشيراً إلى تلقيه معلومات موثوقة تفيد بدفن ما لا يقل عن 87 شخصاً من أفراد قبيلة المساليت ممن قتلتهم قوات الدعم والميليشيات المناصرة لها في دارفور في مقابر جماعية خارج مدينة الجنينة.
لاحقا اتسعت مزاعم الاتهام، لتشمل أطرافا إقليمية ودولية، وصولا إلى الدعوة التي أطلقتها المنظمة الدولية للاجئين في 3 تشرين الأول/أكتوبر للتحقيق بمزاعم تورط دولة الإمارات العربية المتحدة، في عمليات إمداد قوات الدعم السريع بالأسلحة في إقليم دارفور غرب السودان.
وتجددت الاتهامات ضد دولة الإمارات مرة أخرى في 28 تشرين الأول/نوفمبر. هذه المرة جاءت على لسان عضو مجلس السيادة السوداني، ياسر العطا، الذي اتهم دولة الإمارات، بدعم قوات الدعم السريع عبر مطارات أفريقية، ووصفها بـ«الميليشيات المخربة». الأمر الذي أدى إلى أزمة دبلوماسية بين الحكومة في الخرطوم ودولتي الإمارات وتشاد وصلت إلى تبادل عمليات طرد الدبلوماسيين.
وبعد قمة استثنائية عقدتها إيغاد من أجل الدفع نحو تسوية في السودان، أعلنت في11 كانون الأول/ ديسمبر حصولها على التزام من البرهان وحميدتي، بعقد اجتماع وجها لوجه والاتفاق على وقف الأعمال العدائية. إلا أن وزارة الخارجية السودانية تحفظت على بيان القمة مستنكرة ما اعتبرته صياغة معيبة وإقحاماً لفقرات دون مسوغ.
وعلى الرغم من تحفظ الخارجية إلا أن مصادر مطلعة قالت لـ«القدس العربي» إن البرهان بعث بعد انعقاد القمة بخمسة أيام خطابا إلى رئيس الدورة الحالية لإيغاد الرئيس الجيبوتي عمر جيلي أكد خلاله التزامه بلقاء حميدتي على شرط أن يخرج الدعم السريع من المرافق المدنية.
بالتزامن اجتاحت قوات الدعم السريع، عدة مناطق شرق مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، وسط البلاد، قبل أن تعلن سيطرتها على المدينة التي تعد من أكبر المدن السودانية وأقربها إلى العاصمة الخرطوم. كما أنها منفذ هام للولايات شرق وجنوب السودان، الأمر الذي يعني انتقال المعارك في السودان إلى مرحلة جديدة أكثر تعقيدا.
ويواجه المدنيون منذ اندلاع المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أوضاعاً إنسانية شديدة التعقيد، بينما تتصاعد العمليات العسكرية داخل المدن والأحياء، والتي أسفرت عن مقتل 10 آلاف سوداني على الأقل ونزوح نحو 7 ملايين آخرين، فيما اعتبرتها الأمم المتحدة أكبر أزمة نزوح في العالم. في حين تهدد نذر المجاعة أكثر من ثلثي السودانيين، وفق إحصاءات الأمم المتحدة.