لكى لا ننسى
خلفت الحرب الدامى فى رواندا بين قبيلتى التوتسى الهوتو قبل ما يزيد عن ثلاثون عاما مأسى وألام لا تنسى ، ورغم تلك الماسى إستطاعت الحكمة والبصيرة أن تألف بين القلوب المتنافرة ، لتبدأ مسيرة الحياة وتخضر عودها لترسل بارقة أمل للأجيال اللاحقة .
نسلط الضو ء على أكبر المذابح الإنسانية فى التاريخ ، حيث قُتل حوالي مليون رجل وامرأة وطفل آنذاك، معظمهم من التوتسي وأيضا من الهوتو المعتدلين بالمجازر التي انقلب فيها أفراد العائلة الواحدة والأصدقاء على بعضهم البعض. وألفت الكاتبة الفرنسية الرواندية بياتا أوموبيي ميريسي في 2024 كتابا بعنوان “القافلة”، تروي فيه قصة القوافل الإنسانية التي أنقذت حياة مئات اليتامى وتنقل شهادات لناجين من الأحداث المروعة. بياتا كانت بدورها واحدة من الناجين من جحيم الإبادة الجماعية أنقذتها قافلة في 18 يونيو 1994، في عمر الـ15 برفقة والدتها
قبل ثلاثين عاما خلّفت الإبادة الجماعية ضد أقلية “التوتسي” في رواندا التي نفّذها نظام “الهوتو” المتطرف الذي كان يمسك بالسلطة في تلك الفترة، ما يقرب من مليون قتيل بين نيسان/أبريل وتموز/يوليو 1994.
كانت عملية بادة منظمة ارتكبها بشكل خاص الجنود وأفراد مليشيا”إنتراهاموي”، واستهدفت السكان من أقلية التونسى وطالت رجالا ونساء وأطفالا ورضعا ومسنين بدون استثناء.
بين حزيرن/يونيو وتموز/يوليو 1994، تم إنقاذ ألف طفل في اللحظات الأخيرة من موت محقّق بفضل قوافل إنسانية نظمتها منظمة “أرض الإنسان” السويسرية غير الحكومية والتزام العديد من الأجانب والروانديين وشجاعتهم، ومن بينهم عاملون في المجال الإنساني وقنصل وصحافيون وكهنة وراهبات تمكنوا من التسلّل إلى بوروندي المجاورة.
كان الأطفال في دور أيتام أو مراكز استقبال، بعضهم منذ قبل وقوع المجازر، وآخرون من أيتام التوتسي الذين تعرض آباؤهم للتصفية أثناء الإبادة الجماعية. نقلوا بحافلات كبيرة أو شاحنات مكتظة، جلسوا فيها على الأرض، وأجسادهم الضعيفة ملتصقة ببعضها البعض.
كان العديد من الناجين من المذابح يضعون ضمادات، وكان الموت يتربّص بهم عند كل نقطة تفتيش يسيطر عليها رجال ميليشيات الهوتو المتطرفة.تظهر صور تمكنت الكاتبة الفرنسية الرواندية بياتا أوموبيي ميريسي من العثور عليها، نظرات اطفال وقد تمكن منهم الخوف والذهول يحدقون في المصور من داخل الشاحنات أو عند وصولهم إلى بورندي قامت بياتا ووالدتها برحلة العبور معظم الوقت “مستلقيتين على أرضية شاحنة” وتمّت “تغطيتهما بالأقمشة”، لأن السلطات الرواندية كانت تعطي موافقتها على إنقاذ الأطفال دون سن 12 عاما فقط.
ذاكرة للنسيان
عند كل حاجز، حين يفتح عناصر الميليشيات أبواب الشاحنة، كان الأطفال يتكدّسون فوق بياتا وأمها اللتين كانتا تحبسان أنفاسهما للتخفّي قدر الإمكان.
ساعد جان لوك إيمهوف، الناشط السويسري في المجال الإنساني والذي عمل في منظمة “أرض الإنسان” غير الحكومية لمدة 30 عاما، الكاتبة في بحثها في أرشيف المنظمة.
وعمل إيمهوف في رواندا في عامي 1993 و1994 (خصوصا أثناء الإبادة الجماعية، حتى 18 نيسان/أبريل) لصالح اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ثم عاد إلى هناك في العام 1995 في مهمة لصالح منظمة “أرض الإنسان”.
ويتذكّر أن تنظيم القوافل كان “فوضويا حقا”، لأن الإبادة الجماعية كانت متواصلة منذ أسابيع.
ويقول إنه، مع تقدّم القتال، “أصيبت القوات المسلحة الرواندية وقوات إنترهاموي بالجنون”، و”شعرت بالهزيمة الوشيكة وأصبح مصير هؤلاء الأطفال مهدّدا أكثر”.
ويتابع “وجدت منظمة أرض الإنسان نفسها في مواجهة وضع لا يصدّق، ,مسؤولية التكفّل بهؤلاء الأطفال الذين يزيد عددهم عن الألف”
ويضيف “كان معظمهم أطفالا صغارا تتراوح أعمارهم بين خمس وعشر سنوات، فضلا عن الذين تقل أعمارهم عن ثلاث سنوات… أصيب العديد من أطفال التوتسي، وتلقى العديد منهم ضربات بالمناجل”.
وصلت القافلة الأولى في بداية حزيران/يونيو إلى الحدود أخيرا وتمّ الترحيب بالأطفال في بوروندي. لكن قافلة 18 حزيران/يونيو لم يكن في الإمكان تنسيقها مع الصليب الأحمر، فـ”كانت معرّضة لخطر أكبر”.
يروي إيمهوف أن “القافلة كانت تتقدّم بصعوبة شديدة. كانت هناك حواجز على الطرق حيث كان الجنود يخرجون الأطفال، ويقومون بحركات توحي بأنهم ينفّذون عمليات إعدام وهمية. كانت تسير إلى مصير مجهول، والأطفال يخاطرون بحياتهم عند كل حاجز”.
ويتحدّث الناشط عن “صدمة” ظّلت راسخة في أذهان العديد منهم حتى عند وصولهم إلى فرنسا، مشيرا إلى أن العديد من الأطفال والأيتام الذين تم تبنيهم لاحقا “رأوا بأعينهم آباءهم وأفرادا من عائلاتهم يُذبحون”.
“وصلت إلى الحدود بمعجزة”
تقول كلير واحدة من الناجين بفضل القوافل، والتي تعيش اليوم في كندا “سقطت القنابل بالقرب من المدرسة التي كنا نقيم فيها خلال هذه الفترة مع العديد من الأيتام، وكان الأطفال يعانون من جميع أنواع الإصابات، جسدية ونفسية، كان الأمر مرعبا”.
وتروي أنه خلال عملية الإجلاء، “كان هناك الكثير من مرتكبي الإبادة الجماعية على الطريق يحاولون الفرار بالمطارق والسواطير وجميع أنواع الأسلحة. كانت فوضى عارمة حقا لأن الجبهة الوطنية الرواندية كانت بالفعل على أبواب بوتاري، لكن كان لا يزال هناك عدد من مرتكبي الإبادة الذين يريدون قتل التوتسي”.
وتتذكر بوضوح “الحواجز الأربعة” التي أقامها عناصر الميليشيات و”هراواتهم وسكاكينهم الكبيرة… وشعورنا الدائم بالخوف. وصلتُ إلى الحدود بمعجزة”.
في نهاية المطاف، وصلت كلير وأخواتها عند نساء من عائلتهن الكبيرة.
وتقول “قرّرت عائلتي أن ترسلني إلى كندا في العام 1999، لبدء حياة جديدة، وشرعت في إعادة بناء حياتي”.
في العام 2007، عادت كلير إلى رواندا للمرة الأولى لدفن والديها اللذين أمكن التعرف عليهما.
وتقول بصوت مكسور “من حسن حظنا أننا دفناهما بكرامة، على الأقل نعلم أننا عثرنا عليهما”.
منذ ذلك الحين، “اخترت المضي قدما، اخترت عدم الوقوع في الجنون. هذا كلّ شيء”.
في التاسع من حزيران/يونيو الماضي، التقى العديد من أطفال القوافل السابقين وبينهم شخص من كيغالي للمرة الأولى بعد 30 عاما مع ناشط إنساني سويسري وصحافيين شاركوا في إنقاذهم. كان الاجتماع مؤثرا للغاية، تم تنظيمه في النصب التذكاري للمحرقة في باريس
من واجبنا أن نروي ما حدث”
كما شكرت بياتا على عملها الذي سمح لها بمعرفة “أخيرا” من هم أبطال عملية الإنقاذ هذه.
وروت نادين أنها عندما وصلت إلى دار الأيتام، رأت طفل جارتها الذي كانت تعتني به من قبل وقد نجا من هجوم، لكنه أصيب بجروح خطيرة في الرأس.
وأضافت “في السابق، كان الطفل يتكلم، ويعرف كيف يمشي، لكنه نسي كلّ شيء وكان عليه أن يتعلم كلّ شيء من جديد. فقلت لنفسي كيف باستطاعة الكبار أن يفعلوا هذا؟ أنا لا أريد أن أكبر لأصبح مثلهم”.
وتابعت بصوت حزين “أعتقد أنه بفضل هؤلاء المنقذين، استعدت الأمل، فقد حافظوا على قيمهم على الرغم من أنه كل عليهم إنقاذ حياتهم وحماية أنفسهم أولا”.
وقالت “تمّت إبادة والدي هذا الطفل… أشكركم وهذا لا يكفي بعد ما قمتم به، لقد أنقذتم إنسانيتنا ورغبتنا في المضي قدما”.
وتبين لبياتا أن ثلاثين عاما “هي فترة خاصة جدا. إنها محطات مختلفة في القصة، لكن في الوعي إنها دورة حياة، إنها جيل”، مشيرة إلى أنها لم تعثر على العديد من الأشخاص الذين كانوا جزءا من “قوافل الحياة” حتى بعد صدور كتابها.
وتتابع “من المهم جدا أن نروي ما حدث… ونحن نتقدم في السن. من واجبنا أن نروي”.
وتقول كلير أوموتوني إنها قامت ببناء “عائلة جميلة” ومسيرة مهنية ناجحة، مضيفة أنها طيلة السنوات الثلاثين الماضية “اخترت أن أعيش من أجل الذين قُتلوا على الرغم من أنهم لم يكونوا مذنبين، من أجل العيش بكرامة والصمود في وجه مرتكبي الإبادة الجماعية”.
وتخلص “اخترت المضي قدما، لكنني لن أنسى”.
نقلا عن : فرانس ٢٤