في الفترة الأخيرة، أصبح السودانيون يطرحون قضية ذات أهمية في الشأن السياسي للبلاد، ألا وهي العدالة والمساءلة، وما العقبات التي تقف في طريقها، وشكل الآليات التي يجب أن تتخذ كي يحاكم كل من ارتكب جرائم ضد الانسانية والإبادة الجماعية في السودان، وخاصة إقليم دارفور غربي السودان.
هذا البلد، أبتلي بسنوات من الصراع والانتهاكات الشنيعة، ويواجه الآن مسألة، ما إذا كان مستعدا للعدالة والمساءلة؟،
لقد طالب المجتمع الدولي دائماً بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم ضد الإنسانية، ويرى المراقبون أن الطريق نحو ذلك ليس واضحا بالشكل الذي يجب أن يتخذ، ما إذا بالمحاكمات المحلية او المحاكم المختلطة إضافة الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، والتساؤل المطروح، هل سوف تشمل المحاكمات المحلية؟ (المحاكم السودانية). يطرح كثيرون أمثلة لمحاكم المختلطة مثل سيراليون وكمبوديا، ونوع التحديات التي تقف امام القضية السودانية.
العدالة والمساءلة مسألة متداخلة في السودان
يرى المحامي والباحث القانوني عثمان صالح ان مسالة العدالة والمساءلة هي من المسائل المتداخلة، والسودان قبل الاستقلال عام 1955 وما بعده، شهد حروبا وصراعات أهلية وحتى الآن، بعض الفترات توقفت فيها الحروب باتفاقيات، وحالا ما رجعت الحرب أكثر ضراوة، خلال الفترات المتعاقبة على حكم السودان سواء من الحكومات العسكرية أو المدنية ارتكبت الكثير من الانتهاكات، والفظائع والجرائم، واتسمت هذه الحقب والفترات بمسألة الإفلات من العقاب، والفشل في محاسبة للجرائم التي ارتكبت.
في فترات الرؤساء السابقين، منذ الفريق ابراهيم عبود وجعفر نميري والرئيس عمر البشير، ارتكبت جرائم في جنوب السودان، باتباع سياسة الارض المحروقة، والقتل بمختلف انواعه، لم تتم أي محاكمات لهم، اضافة الى الاغتصابات، والتهجير القسري والاختفاء القسري.
إن عدم المحاسبة يسبب ان مرتكبي الجرائم كثيرا ما يتشبثون بالسلطة، وهذا التشبث بالسلطة له سببان، الحاكمين لهم مصالح وامتيازات يريدون الحفاظ عليها، على سبيل المثال الثروات التي تم نهبها، والشركات التي تم إنشاؤها، والسبب الثاني، حتى لا تتم محاسبات، ولا مسائلات، لان فقدان السلطة يؤدي إلى المساءلة والمحاسبة، والاستمرار يساعد في الإفلات من العقاب.
رغم مطالبة المهتمين بمحاسبة مرتكبي الجرائم، لا زالوا بعيدون عن يد العدالة، بسبب الاستمرار في السلطة، أو ان من جاءوا بعدهم موالون وحلفاء لهم، علي سبيل المثال, فان رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان حمي أنصار النظام السابق من التسليم إلى محكمة الجنايات الدولية، حتى قامت الحرب، وهربوا من السجن، ما يؤدي الى الإفلات من العقاب، كما حدث 2019، بعد ان ارتكبت اللجنة الامنية للمؤتمر الوطني جرائم ترتقي الى الابادة الجماعية في دارفور، والجرائم ضد الانسانية، والتسوية التي تمت فيما بعد أدت الى عدم تقديمهم للمحاكمة، لكن ارتكبوا جرائم جديدة من خلال فض الاعتصام والحرب الدائرة الآن.
ويشير المحامي إلى أن بعض المدنيين لهم نوايا عقد صفقة أو اتفاق، أهم بند فيها هي مسألة الحصانات للأشخاص الذين ارتكبوا الجرائم، ثم يكونوا هم جزءا من السلطة. هذا يؤدي مباشرة إلى مسألة الإفلات من العقاب. تكالب المدنيين للاتفاق مع المعسكر دائما يؤدي إلى تأخير تقديم مرتكبي الجرائم إلى المحاكمات.
وأضاف المحامي أنه وبدون توثيق ورصد الانتهاكات والتحقيق فيها، لا يمكن محاكمة المتورطين، وعليه يجب العمل بجدية لتوثيق هذه الانتهاكات، والتحقيق، ثم الاحتفاظ بالأدلة والبيانات حتى يأتي اليوم الموعود.
يعتقد الكثيرون أن دور الحكومة السودانية يمكن ان يكون حاسما ومهما إذا تعاونت مع المجتمع الدولي، وقامت بالعمل على تشكيل لجان مختلفة على أن تكون حقوق الضحايا من الأولويات، والعمل على اتخاذ الإجراءات العادلة والشفافة، والتطرق إلى قضية المصالحة، وتضميد جراح الأبرياء التي سقطوا ضحايا في الحروب السابقة، والجميع يعمل على إنهاء هذه المشاكل، وعلى الأطراف الدولية أن تكون مشاركة ولها صوت يجب أن يسمع من خلال انشاء محاكم محكمة هجين أو ما يعرف بالمحاكم المختلطة.
محكمة هجين (مختلطة) في السودان
لإنشاء محكمة هجين، دعا زعيم حزب الأمة السوداني الراحل قبل 14عاما، الصادق المهدي إلى تشكيل “محكمة هجين” تحاسب المسؤولين عن ارتكاب جرائم في دارفور تكون بديلا للمحكمة الجنائية الدولية في صورتها الراهنة، وتكون بمنزلة حل ثالث ينهي السجال بين مؤيدي تسليم الرئيس السوداني السابق عمر البشير للمحكمة الجنائية والرافضين لذلك، مشيرا إلى أن الصيغة قد تجنب السودان القتال المحموم، لان كل فريق يستقوي بحلفاء دوليين وإقليميين. وأضاف ان المحاكم السودانية لن تكون قادرة على تنفيذ عقوبات بحق مرتكبي الجرائم، هو ما يجعل ضرورة البحث عن محكمة جديدة تتكون من قضاة سودانيين وعرب وافارقة تحقق العدالة والاستقرار.
بينما أعلنت وساطة حكومة جنوب السودان تعليق المفاوضات المتعلقة بمسار دارفور، بين الحكومة والحركات المسلحة، الجارية في جوبا في وقت سابق لمنح الأطراف مزيداً من الوقت للتشاور، توصلت الحكومة إلى خطة لتشكيل محكمة «هجين» من قضاة سودانيين وآخرين دوليين لمحاكمة مجرمي الحرب في دارفور، وعلى رأسهم الرئيس المعزول عمر البشير.
حينها قال عضو مجلس السيادة، والمتحدث باسم الوفد الحكومي المفاوض، محمد الحسن التعايشي، إن مكونات السلطة الانتقالية والأحزاب السياسية أجرت مشاورات مكثفة، توافقت على رؤية شاملة للمفاوضات، وخاصة فيما يخص محاكمات لمجرمي الحرب في دارفور. وأضاف أن “قضية العدالة تستصحب المطالب المشروعة في مثول المجرمين أمام محكمة الجنايات الدولية والقضاء الوطني الخاص.”
يفضل بعض الخبراء المحاكم الهجين لتحقيق العدالة. يقول بيتر تشابمان، المستشار لدي مجموعة اصلاح العدالة التابعة للبنك الدولي، في ورقة له عن تاريخ المحاكم المختلطة في شرق آسيا والمحيط الهادئ، أن المحاكم المختلطة قد تكون النهج “الأفضل” لإصلاح العدالة. كما اوضح ان استخدام ’’ المحاكم المختلطة ‘‘لوصف مجموعة متنوعة من مبادرات الدولة التي تسعى إلى إضفاء الطابع الرسمي على أنظمة العدالة المجتمعية ودعمها داخل نظام العدالة، قد تكون فعالة في تعزيز الحل العادل للنزاعات.
التأثير الايجابي
تري إلين إميلي ستينسرود باحثة ورئيس قسم الأبحاث في المركز النرويجي لدراسات المحرقة والأقليات أن المحاكم المختلطة في سيراليون وكمبوديا تقدم دروسا مهمة حول كيفية حل المشاكل والمعضلات في تحقيق الشرعية اللازمة لآليات العدالة الانتقالية حتى يكون لها تأثير محلي إيجابي. رغم أن كثيرون علقوا آمالا كبيرة على النموذج المختلط، الا ان إلين تشير الى ان التجارب تظهر أن هذا النموذج ليس حلا سهلا للمشاكل.
كما أوضحت الين من خلال تحديد موقع المحكمة في مرحلة ما بعد الصراع، قد تنشأ معضلات جديدة تتعلق بالشرعية، وتشير الى أن آليات العدالة الانتقالية يجب أن تحقق التوازن بين العدالة الرجعية والمستقبلية، وبين المشاركة الدولية والوطنية، إلا أن هذا لا يتم بمجرد إنشاء محكمة في البلد المتضرر، لكن يتم من خلال مشاركة دولية ومحلية لإنشائها وذلك على غرار كمبوديا.
محكمة كمبوديا انموذجا
إذا تم النظر إلى تاريخ المحاكمات في العالم، خاصة في الجرائم ضد الانسانية الشنيعة، أنشئت الغرف الاستثنائية في إطار المحاكم الكمبودية بموجب الاتفاق بين الأمم المتحدة وكمبوديا لمحاكمة كبار قادة ” الخمير الحمر” الذين يتحملون مسؤولية جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والجرائم الأخرى بموجب القانون المحلي، والتي ارتكبت خلال الفترة من 1975 إلى 1979.
وعليه قامت الجمعية الوطنية الكمبودية بوضع قانون لإنشاء المحكمة، وأسفرت المفاوضات بين الطرفين في نيويورك إلى اتفاق يوم 17 مارس ،2003 وافقت الحكومة الملكية لكمبوديا على أربع مطالب رئيسية للأمم المتحدة تم بموجبها تعديل القانون الكمبودي لتبسيط إجراءات الاستئناف من أجل إدماج الحقوق المنصوصة للمتهم في المادتين (14) و(15) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتأكيد على أن اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الذي يمنع الاحتجاج بالقانون الوطني للهروب من الالتزامات بموجب المعاهدات الدولية فيما يتعلق بالعفو، فإن بند ال21 للاتفاق ينص على أن الحكومة الملكية لكمبوديا تتعهد باحترام هذه الالتزامات.
بتاريخ السابع والعشرون من شهر يونيو 2011، بدأت في العاصمة الكمبودية (بنوم بنه) محاكمة أربعة من أبرز رموز نظام الخمير الحمر، بتهم ارتكاب جرائم إبادة، عندما كان النظام الحاكم يحاول تطبيق تصوره للشيوعية. مثل أمام قضاة المحكمة المشتركة بين الأمم المتحدة، وكمبوديا كل من رئيس كمبوديا الأسبق خيو سامفان والمهندس الأيديولوجي نظام الخمير الحمر ’’ نوتشيا ‘‘، بالإضافة إلى 22 نائب ورئيس الوزراء وزير الخارجية (يانغ ساري)، وزوجته ووزيرة الشؤون الاجتماعية (يانغتيريت)
وكان القضاة في المحكمة يتكونون من محليين وأجانب، بينما كان المحليون يشكلون الاغلبية، وبالتالي تعتبر محكمة مختلطة وهو ما يكمن تطبيقه على الحالة السودانية.