تعلمت في المدرسة الجزء الثالث
الغالى الزين
الطابور الأول و الدخول في الفصل ..
——————————
لا أستطيع وصف تلك الليلة التي بتناها في الداخلية … قبل المغيب بقليل جاء الفرٍَّاش يحمل عدداً من اللمبات ام شباك ( الفوانيس ) ذات اللون الأزرق … اللمبة ليس لها شباك إنما سميت بذلك نسبة ل(شبك) السلك الذي يحيط بالقزازة ( الزجاجة ) من الخارج كالقفص لتثبيت زجاجة اللمبة و المحافظة عليها من الكسر و كنا لا نرى اللمبة أم شباك إلا في بيت العريس أو الدكان ! … بجانب اللمبات جاء بجالون مليء بالجاز و معه ( صبابة ) … كل هذه اللوازم كانت معلومة لدينا … بعد قليل حضر الأستاذ و جمعنا في الفسحة بين العنابر ، و أمر الفراش أن (يفرتق) الورق من قزاز اللمبة الذي كان يحميها ، و يملأ اللمبات بالجاز أمامنا كنوع من التدريب العملي للإعتماد على الذات … ثم ( و لَّع ) اللمبات الخمس و علمنا كيف نرفع و نوطيء القيطان لزيادة الإضاءة ، و كيف (نطلِّع) القزازة و ننظفها . ثم أمر رؤساء العنابر ليأخذ كل منهم لمبته و ينصرف معه زملاؤه الي العنبر و أمره بوضع اللمبة وسط القطية بين العناقريب حتى يكون الجميع على ( مسافة ) واحدة من اللمبة (عدالة و مساواة ) … دخلنا كلٌّ إلى العنبر و لزمنا العناقريب في صمت … الوقت كان بدايات خريف …تجمعت الحشرات بكميات كبيرة حول اللمبة و هو منظر مألوف لدينا … الظلام خيَّم على ساحة المدرسة و أشجار السيال و المرخ التي تحيط بالمدرسة من كل الجوانب و تحنو على السور كأنها حراس ليليين ! … بعد فترة من الوقت نادى الفرَّاش ( يلا العشا ) يا أولاد … طلِّعوا معاكم اللمبات ( تحسباً ) للعقارب و الثعابين التي تنشط حركتها في الليل … خرجنا باللمبة من العنبر لا نستطيع الرؤية أبعد من المسافة حول اللمبة من شدة الظلام … غسلنا أيدينا و تحلقنا للأكل و ( بُتنا بوتة ) للصحن — يعني فجينا الرملة — هيأنا مكان لتثبيت الصحن حتى لا يتحرك أثناء الأكل ربما تحدث ( مجابدة ) … جاء الرئيس بالصحن و قبل أن يضعه على الأرض ناوشته أيدينا ، فرفعه و قال :
و الله كان واحد دخل إيدو قبال نخت الصحن (نقبلو ) أي نرجعه … أمسكنا أيدينا و وضع الصحن في مكانه المعد مع ( فَرْكَه ) لتأكيد ثبوته ، كل واحد مسك بطرف الصحن الموالي له تأدباً كما عهدناه في ( الضرا ) و خوفاً من أن يسحب من أمامك … ما هي إلا خمس دقائق و كل يحاول ( يخرت ) الصحن … الرئيس قال لينا هوي كل واحد يخرت محله بس و ما في زول يخرت محل زول … الحمد لله تعشينا (بمخاتفة) لكن عرفنا في ناس ( بتكبِّر) اللقمة في الضلام ! ، و (ختيناهنا) لي باكر !! …
بعد العشاء أمر الفرَّاش رئيس العنبر يشيل اللمبة و يطلع (برا) المدرسة و يطلعوا معاه كل ناس العنبر علشان ( يتسيروا ) لأن قيام الليل فيه خطورة علينا من الثعابين … قضينا حاجتنا و رجعنا للعنابر و قام الفراش ( صفق ) و قال خلاص النوم اطفوا اللمبات … نحنا ماسمعنا كويس .. واحد مننا قال لينا : هووي الزول القبيل داك قال ليكم ( أكتلوا) اللمبة . يا لها من لغة جميلة ! أكتل ( أقتل) بمعنى أطفي و ( فهمناها سليمان) … نفخ الرئيس في اللمبة أكثر من ثلاثة مرات لم يستطع ( كتلها ) فنزل أحد الزملاء يبدو أنه من (أصحاب) اللقمة الكبيرة بس نفخة واحدة و الضلام ( كبسنا ) وكلنا بصوت واحد قلنا ( بِسِّمِ) الله بكسر الباء و تشديد السين المكسورة و الخوف يغازلنا ، مما جعلنا كل ليلتنا مركزين على باب القطية … المكان غريب ، الأصحاب غرباء ، كل متوجس من الآخر خائفاً على كل ما يملك من ممتلكات ( ثمينة) من السمسم و كسرة الخمير من السرقة … صورة (البعاتي) و (العفريتة) و ( الشكلوتة) و (ترب البنية) و غيرها من القصص التي كانت تحكيها حبوباتنا كانت حاضرة تداعب مخيلاتنا … لا أظن أن أحدٌ منا أغمض عينيه حتى الصباح … أصبحنا و أصبح الملك لله …
توجهنا للبرميل لنغسل وجوهنا ، و ( نمصمص) أسنانا ، لأن ثقافة ( السواك ) كانت بعيدة عنا ، لكنا (تعلمناه ) في المدرسة فيما بعد … جلسنا في حلقات و كل يمسك بكبايته أم خريس … مر رئيس العنبر و عبأ لكلٍّ كبايته ب( شاهي ) اللبن فشربنا و مازالت أعيننا محدقة في ( الكفتيرة ) الخضرا متوقعاً الزيادة لكن ( للأسف ) !! … غادرنا مكان الشاهي و غسلنا الكبايات ثم أودعناها الشنط … أخرجنا العناقريب و الشنط خارج العنبر لتنظيفه … لا توجد مظاهر لوساخة ، لا في العنابر ولا المدرسة ، ذلك لأن الأرض رملية لا تمسك الأوساخ ، و أن أهل القرية لا ستخدون الأكياس أو الورق لأنها أصلا غير موجودة … الناس يحملون مصروفاتهم في( الخراتي ) و ( الجربان )و ( الضبية ) وهي أكياس من القماش و جلود الأغنام ( المدبوغة) … لم نحتاج لمكانس للتنظيف ، فقط طرحنا الرملة بأرجلنا و أدخلنا العناقريب و ( تكلناها ) على ( سوج ) القطية و وضعنا الشنط و البروش بين السوج و العناقريب …
توجهنا إلى ساحة المدرسة نتوشح شنطنا المصنوعة من قماش الدمورية و هي خالية إلا من (قلم ) رصاص و (براية) و (إستيكة) … وجدنا الناظر و أستاذ حسن في هندامهما الغريب المهيب ، و أستاذ خليل في جلبابه و عمامته الأبيضين و كان هو الأقرب لنفوسنا كون مظهره مألوفاً في بيئتنا ! …
جمعونا أمامهم و أمرونا بتنظيف حوش المدرسة الذي لا يوجد به غير ( صفق) الشجر المتساقط بسبب حركة الأفرع التي تداعبها هبوب الرشاش …
بعد زمن ليس بالكثير وقف المدير أمام مكتبه و ( ضرب ) الجرس لفترة متواصلة من الزمن ، كأنه أراد لنا أن نركز على الجرس و نعتاد على صوته … بالفعل نحن لأول مرة نرى الجرس في حياتنا ، غير أن أهلنا كانوا يصنعونه من علب الصلصة و يربطون بداخلها قطعة من الحديد و يعلقونها على أعناق (العبران) . جمع عبور وهي الشاة التي لم تلد بعد . و البعض يربطها على عنق ( الكبش ) الفحل فتسمع لها صوتا كالجرس أثناء الحركة غير أن صوت الجرس به حدة و رقة ، ذلك للتنبيه ليلاً اذا بعدت الأغنام عن راعيها فيدله صوت الجرس على اتجاهها …
جمعنا حول الناظر ، و وقفنا طابور في المكان الذي خصص لنا بالأمس ، و وقف بالمقابل لنا طلاب الصف الثاني … شرح لنا استاذ حسن (صفا) و (انتباه) بيان بالعمل و قال لينا شوفوا اخوانكم بعملوا كيف … تانية صفا و وقف قليلا وقال شفتوا اعملوا زي ما عملوا اخوانكم . و عملنا صفا . قال لينا خليكم كدا لمن اقول ليكم … قال تانية انتباه … عملوا انتباه ثم التفت إلينا قال اعملوا انتباه عملنا انتباه لكنها (مشتورة ) الإيقاع … بعد ذلك قال تانية ، يمين دور … ناس تانية دوروا مارش بالصف و دخلوا الفصل بالدور … نحن نتابع الموقف لنقلد فعلهم … بعد انصراف الصف الثاني ، وقف الأستاذ عند أول واحد في صفنا و قال ليهو اتحرك أدخل الفصل و قال لينا كلكم وراهو بالصف …
دخلنا الفصل و تم إجلاسنا بالترتيب حسب الطول … الناس الطوال في الصف الأخير ثم الأقصر فالأقصر …
أمسك الأستاذ بكراسة و قال لينا كل من يسمع اسمه يقول نعم و يقيف على (حيلو) … هذه المرة استوعبنا متى نقول نعم … تمم الأستاذ علينا بالإسم و وضع الكراسة على التربيزة ، ثم بدأ التعرف على مناطقنا و سألنا عن عدد إخوانا و عمل آبائنا و انتو جايين المدرسة تعملوا شنو ؟ …
إلى هنا ضرب الجرس و انتهت حصة التعارف و المعاينة و غادرنا الأستاذ … و تركنا في استعداد لما بعد التعارف و المعاينة …
خلينا نقيف شوية للحلقة القادمة بإذن الله و ما زلنا داخل الفصل …
الغالي الزين
2024/6/28م